اننا متخلفون. نعرف هذا ونقر به. ولكن اعترافنا هذا لا يلغي تخلفنا ولا يوضح اسبابه ولا يقلل من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا.مسؤولية المفارقة المتولدة من اننا ندين بدين كان اول ما انزل منه: إقرأ.
* * *
لكن اكثر جوانب المأساة بروزا هي موقف حملة القران والدعاة من اول كلمة انزلها عز وجل على الرسول الكريم …
فرغم انتشار الصحوة الإسلامية – كما يسمونها اليوم – فان هناك قصورا واضحا في علاقتها مع إقرأ… وهو القصور الذي ينعكس على علاقتها بالمجتمع والواقع والتاريخ والمستقبل، بل على علاقتها مع نفسها كظاهرة صحوة، وعلى علاقتها بالإسلام، ككل …
إنها نقطة الخلل المركزية التي تمحورت حولها كل مشاكل الرؤية والتطبيق التي تعاني منها الصحوة … ويعاني منها الفكر الإسلامي …
ذلك ان مفهوم إقرأ ظل مفهوماً ثانوياً ومرتبطاً بالقراءة التقليدية الجاهزة للمجلدات والكتب التي سطرها الاولون فحسب. وكانت هذه القراءة – الا فيما ندر – تلقيناً تقليدياً، لا حواراً بين الاجيال وبين الواقع الحاضر – والماضي، بل كانت قراءة تحاول اقسار الماضي على الحاضر ولو بالقوة. وتفرض فهم رجال وعلماء عاشوا في القرن الخامس او السادس الهجري على ظروف القرن الخامس عشر …
وكان ذلك تحجيراً لواسع. وتقزيما لمارد. واغتيالاً لروح الإبداع. لصحوة الأمل في النفوس …
ومن هذا الخلل الكبير لفهم (إقرأ) نتجت ظواهراً فكرية مؤسفة في الصحوة – الأمل. رغم ان هذا الخلل نفسه نتج عن مجموعة ظروف وملابسات تاريخية واجتماعية قديمة تعود الى عصر الانحطاط لكن النتيجة النهائية للفهم الجامد لكلمة إقرأ كانت استمرار التكريس لقيم ومفاهيم عصر الانحطاط بل تحويلها الى بديهيات، مسلمات لا غنى عنها ….
* * *
نفس الآيات الثلاثة التي أنزلت أول مرة في الغار كانت تحمل إشارة الى خلق الإنسان من علق. والعلق مضغة الدم، وهي طور من الأطوار الجنينية التي يمر بها الإنسان، وقد ذُكِرتْ هذه الأطوار بتفصيل اكبر في آيات أخرى من سور مختلفة.لكن موقعها هنا بعد إقرأ مباشرة، وقبل إقرأ مباشرة، يثير الانتباه والتأمل، للوهلة الأولى – على الأقل.
لكن لا عجب، فالعلقة دور من أدوار التطور التي يمر بها الإنسان – إلى ان يصير أنساناً، بالضبط كما تمر بقية المخلوقات بأدوار وأطوار تختلف او تتشابه مع الأطوار الإنسانية بحسب موقعها من خارطة الخليقة:القطة والكلب والفيل والنملة وحتى الديناصور مروا جميعا باطوار معينة – مثلما مر الانسان …
لكن تطور الإنسان لا ينتهي بانتهاء هذه الأدوار الجنينية كما ينتهي تطور بقية الحيوانات. انه لا يكتمل انساناً الا بخطوة أخرى … بطور آخر … وبينما يمر الإنسان بتلك الأطوار السابقة رغماً عنه – كما تمر الحيوانات الاخرى بها. فان هذا الطور الاخير لا يمر الا بإرادته ووعيه انه يختاره او لا يختاره. يكمل درب التطور، او يظل حيث هو …
وهذا الطور، بل هذه الحرية في الاختيار، وتسليم الوعي والارادة لهذه المسؤولية هو أول ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات ….
وهذا الطور هو الوعي ذاته. انه " إقرأ " التي تحاصر الإنسان – العلقة في الآيات الثلاثة الأولى التي أنزلت في الغار …
" إقرأ " هي الطور الإنساني الأخير الذي به يكتمل تطور الإنسان – ويتميز عن بقية المخلوقات …
انها الحلقة المفقودة التي طال البحث عنها – في تطور الإنسان – وهي موجودة لا في الحفريات وعظام الجماجم القديمة وبحوث الانثروبولوجيا. إنها موجودة في وعيه. في عقله. في قراره بان يكون إنساناً … والذي لا بد وان يمر باقرأ…
إقرأ هي تلك الطفرة النوعية التي يختار الإنسان ان يقفزها ليتخطى الحواجز والعقبات التي تعوقه عن إنسانيته. عن وعي المعاني العميقة الكامنة في كل ذرة من ذرات الكون وكل حركة من حركات التاريخ، عن ان يكون كما اراده الله ان يكون: خليفة على الأرض … ..
يقف الإنسان – بعد ان اكمل تطوره الطبيعي الخارج عن إرادته – ليقرر هل يكمل، ويستجيب لهمسة الغار، ويصعد ذلك السلم المضيء الملون – سلم التطور الإنساني الحقيقي.سلم إقرأ، وكل درجة من درجات السلم يصعدها تغوص به الى عمق الحقيقة والوعي والإرادة , وتزيده اقتراباً من دوره ومسؤوليته الحقيقيين.
او ان يقف – مكتفيا بتطوره الجنيني – فيقف على حافة السلم، قدر الطحالب والدواب.
* * *
…. و (إقرأ) تمثلت في منجزات حضارية مختلفة ومتنوعة – كانت في حقيقتها جوهر الحضارة التي ارتكزت على همسة الغار …
فمرة تمثلت في فقه متجدد – قائد- يتجدد مع تطورات المجتمع والظروف. ومرة تمثلت في عدالة اجتماعية شملت كل مواطنيها في البلدان المفتوحة ايضاً …
وتمثلت في صراع متأجج بين قوى متناحرة، ومتنافرة: الأولى التزمت بـ (إقرأ) المتجددة الفهم للمقاصد والثانية حاولت الزام قراءة واحدة – جاهلية غالباً- على الواقع والمجتمع …ورغم اختلاف الشعارات، وتبدلها بين الحين والاخر … فان إقرأ، كانت دوماً هناك في العمق، خلف الكواليس وخلف الستار.
وعندما اختفت (إقرأ)، صارت مجرد كلمة دون المعاني والافاق والمقاصد، صار الصراع يمثل – رؤى جامدة ومتوارثة: دون ذلك الفهم، دون ذلك التجدد، دون تلك المقاصد أي باختصار: دون ذلك الاسلام – الحقيقي.
* * *
في البدء كانت إقرأ؟
لا. ليس في البدء فقط. انها في البداية والنهاية وفيما بينهما.
إنها الأمر الأول – الفرض الأول غير القابل للاستئناف او النسخ. والذي لا يكسب فعاليته وحيويته الا باستمراره على كل الأوامر التالية – بل كل الأمور التالية – والتي لا تكتسب – هي الأخرى – فعاليتها الا بالتعامل مع الأمر الأول: إقرأ…
لذلك فان إقرأ ليست مجرد بداية تاريخية لنزول الوحي. إنها البداية والنهاية وما بينهما. إنها جوهر الحكاية بأكملها. الحكاية التي لم تنته بعد …
* * *
مقتبس من كتاب البوصلة القرآنية-للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق
¥