والرزق، وأما (الباطنة) فما ستر من العيوب والذنوب. وفي قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (فصلت:34) قال: هو السلام عليه إذا لقيته؛ وفي قول آخر له في معنى الآية نفسها، قال: المصافحة.
وتتبع أقوال هذا الإمام لا يمكن حصرها في مقال كهذا، وفي الأمثلة التي ذكرناها ما يدل على مكانة هذا الإمام، ومنزلته في علم التفسير.
على أن بعض أهل العلم قد لاحظ على منهج التفسير عند الإمام مجاهد أمرين:
أولهما: أنه كان يسأل أهل الكتاب عن تفسير بعض الآيات التي لم يثبت فيها نَقْل لديه.
والثاني: اعتماده الرأي أحياناً في فهم بعض نصوص القرآن الكريم؛ ولا يسعنا أن نفهم هذين المنهجين إلا على وفق ما يليق بمكانة هذا الإمام.
فسؤاله أهل الكتاب كان في حدود ما هو جائز ومشروع، ولم يتعدَّ ذلك إلى ما هو محظور وممنوع. كيف لا، وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، الذي كان يشدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب، أو يصدقهم فيما يقولونه، إلا ما شهد له شاهد من الشرع.
وأما مسألة إعماله العقل في تفسير بعض الآيات، فحاصل القول فيها: إن كل الناس يؤخذ منه ويُرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله عن الخطأ، وعلى هذا فإن هذا المنهج من مجاهد لا يقلل من القيمة العلمية لهذا الإمام، الذي أجمع الناس على إمامته في التفسير من غير منازع ولا مدافع.
ثم إن كتب التراجم قد ذكرت أن مولد هذا الإمام كان سنة إحدى وعشرين للهجرة، وتوفي بمكة سنة اثنتين ومائة، وتوفي وهو ساجد رحمه الله. قال ابن جريج: بلغ مجاهد يوم مات ثلاثًا وثمانين سنة.
بعد هذا نقول: إن من بين التفاسير التي كُتب لها أن تصل إلينا تفسير الإمام مجاهد، وهو تفسير مطبوع ومتداول بين أهل العلم، وهو أيضًا يدل على مكانة هذا الإمام؛ فما هذا التفسير وغيره من التفاسير، إلا أثر من آثار السلف الصالح، التي تدلنا على سيرهم المتواصل في حقل تبيينهم لكتاب ربهم، وتدعونا إلى أن لا نألوا جهدًا في تدبر القرآن، ولا ندخر وسعًا لتفهم آياته، ونجتهد غاية الاجتهاد في سبيل هذا التبيان؛ قصدًا مخلصًا إلى الحق، فرب مبلغ أوعى من سامع.
4 - عطاء بن أبي رباح وورعه في التفسير:
علو الهمة صفة ملازمة لعلماء هذه الأمة، وقد قيل فيما قيل: رجل ذو همة يحيي أمة. وعلو الهمة لا تحتاج إلى جمال منظر، ولا إلى كثرة مال، ولا إلى منصب رفيع، بل تحتاج إلى إخلاص نية، وحسن طوية، وصدق عزيمة، وتوكل على الله.
هذه الصفات التي أتينا على ذكرها كانت صفات التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح الذي انتهت إليه الفتوى في مكة؛ كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث. حدث عن نفسه فقال: أدركت مائتين من الصحابة. فقد سمع من ابن عباس، و ابن عمر، و ابن الزبير، و عبد الله بن عمرو، و أبي هريرة، و أبي سعيد، و زيد بن خالد رضي الله عنهم أجمعين؛ وروى عنه من التابعين جمع؛ منهم: عمرو بن دينار، و الزهري، و أبو الزبير، و قتادة، و مالك بن دينار، وغيرهم.
و عطاء هذا، هو الذي خاطب فيه ابن عباس رضي الله عنهما أهل مكة، بقوله: " تجتمعون إليَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء "؛ وهو الذي قال فيه ابن عمر رضي الله عنهما، وقد سئل في مسألة - وكان بمكة - فقال: تجمعون لي المسائل، وفيكم عطاء بن أبي رباح!؛ وهو الذي قال في حقه الإمام الأوزاعي: مات عطاء وهو أرضى أهل الأرض؛ ثم - أخيرًا وليس آخرًا - هو الذي قال فيه أبو حنيفة: " ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء " حتى إنه كان ينادى في موسم الحج: " لا يفتى الناس إلا عطاء ".
كل هذا - وغيره كثير - يشهد للمكانة العلمية التي كان عليها عطاء بن أبي رباح؛ وليس أدل على ذلك من شهادة أستاذه ابن عباس رضي الله عنهما، الذي لازمه فترة طويلة، وأخذ عنه علم التفسير؛ وعلى الرغم من مكانته العلمية، وملازمته لـ ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه لم يرو عنه الكثير من التفسير، بل نجد أن مجاهدًا و سعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كثرة تورعه عن القول في كتاب الله برأيه؛ وقد رُويَ أنه سئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إن لأستحي من الله أن يُدان في الأرض برأيي.
¥