فالقول الأول: أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت، فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن.
والقول الثاني: المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، كما بين في القرآن.
والقول الثالث: أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع.
و يبدو أن المعنى الراجح في تفسير قوله تعالى:
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}.
ما جاء عند:ابن كثير حيث قال:
قَوْله " وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن " تَأْكِيد لِهَذَا الْوَعْد وَإِخْبَار بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسه الْكَرِيمَة وَأَنْزَلَهُ عَلَى رُسُله فِي كُتُبه الْكِبَار وَهِيَ التَّوْرَاة الْمُنَزَّلَة عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيل الْمُنَزَّل عَلَى عِيسَى وَالْقُرْآن الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّد صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وما جاء عند القرطبي:
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}
إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُب , وَأَنَّ الْجِهَاد وَمُقَاوَمَة الْأَعْدَاء أَصْله مِنْ عَهْد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. و " وَعْدًا " و " حَقًّا " مَصْدَرَانِ مُؤَكدَانِ.
وهما يحتملان القول الأول والثالث ولا يحتملان القول الثاني.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ} والمعنى: أن نقض العهد كذب. وأيضاً أنه مكر وخديعة، وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها. وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ} استفهام بمعنى الإنكار، أي لا أحد أوفى بما وعد من الله.
والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر السابق.
" و التذييل هو أن تأتي في الكلام جملة تحقق ما قبلها ".
وهنا قال الله في مطلع الآية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، ثم تحقق الكلام بقوله {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}
ثم قال: {فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ} {فَ?سْتَبْشِرُواْ} التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار إظهاراً لسرورهم.
" والالتفات أسلوب بديعي،وهو أن تتغير صيغة الخطاب بين فقرات الجملة الواحدة من مخاطب إلى غائب إلى متكلم ".
وليست السين فيه للطلب، والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور بما فزتم به من الجنة، وإنما قال سبحانه: {بِبَيْعِكُمُ} مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم فيها هو من قبلهم، وقوله تعالى: {?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول: أنفس هو خلفها وأموال هو رزقها {وَذَلِكَ} أي البيع الذي أمرتم به {هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ} الذي لا فوز أعظم منه، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال. والإشارة إلى الجنة التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم، وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن.
واعلم أن هذه الآية {إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ} مشتملة على أنواع من التأكيدات:
فأولها: قوله: فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد.
والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد.
وثالثها: قوله: {وَعْداً} ووعد الله حق.
ورابعها: قوله: {عَلَيْهِ} وكلمة «على» للوجوب.
وخامسها: قوله: {حَقّاً} وهو التأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: {فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: {وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ} وهو غاية في التأكيد.
وثامنها: قوله: {فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} وهو أيضاً مبالغة في التأكيد.
وتاسعها: قوله: {وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ}
وعاشرها: قوله: {?لْعَظِيمُ} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.
والله أعلم.