والسلام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر.
فإن قيل: وجب أن يكون قوله: {فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وهذا لا يليق إلا بالرسول، والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه، فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول.
قلنا: هذا ضعيف، لأن قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ ?للَّهُ} وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر، وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال.
وقال الشيخ أبو حيان:
والضمير في عليه عائد على صاحبه، قاله حبيب بن أبي ثابت، أو على الرسول قاله الجمهور، أو عليهما. وأفرده لتلازمهما ........ والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابت الجأش، ولذلك قال: لا تحزن إن الله معنا. وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}
يعني الرسول، وتسبحوه: يعني الله تعالى.
وقال الشيخ ابن عاشور:
{فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار، وأنّها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لا تحزن إن الله معنا} بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحِين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل {نصره} على الترتيب المتقدّم، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} إلى أبي بكر، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في {أيّده} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أنّ المقام لذكر ثباتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فأنزل الله} مفرّعاً على {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً.
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[16 Aug 2006, 02:21 م]ـ
السادة الكرام
حينما يكون الحديث في مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، او في مقام الأنبياء الكرام عليهم السلام، فإن الوضع عندنا يختلف، والحال تدعو إلى التريث في نسب الأمور إليهم إلا ببينة وبرهان.
وكثيرًا ما رأيت العقل المجرد يتقدم على النص في حقوق الأنبياء عليهم السلام، فيردُّ المفسرـ بحجة (تنزيه الأنبياء وعصمتهم) ـ ما أثبته الله بنفسه في كتابه.
والأمر في هذا أن نعود إلى النص، ونأخذ بظاهره، فالله تعالى أعلم بمقام أنبيائه منا.
وإن أدخلنا الاستدلال العقلي، وجعلناه هو الأصل في هذا المقام صرنا كالمعتزلة الذين حكموا العقل في نصوص الكتاب والسنة.
ومن ثَمَّ، هل هناك ما يمنع عقلاً وواقعًا أن تكون السكينة تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وهل نزول السكينة عليه يُعدُّ نقصًا حتى ننفيها؟
كيف وقد ثبت نزول السكينة عليه صلى الله عليه وسلم صراحة في ظاهر القرآن في قوله تعالى في سورة الفتح: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين).
وأعود إلى مداخلة في كلام الأخت روضه، فأقول:
إن قولها: (أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات) ليس على إطلاقه، بل إن ترتيب الضمائر في عودها على مذكور أولى من تفككيكها، ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، أورد منها:
ذكر الألوسي الخلاف الوارد في عود الضمير في لفظي (تعزروه وتوقروه) من قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً)، فقال: ( ... والضمير له تعالى أيضًا، وقيل: كلا الضميرين للرسول صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس.
وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتوهم ان التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى. كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى (وتسبحوه) لله سبحانه وتعالى.
ولا يخفى أن الأَولى كون الضميرين ـ فيما تقدم ـ لله تعالى أيضًا؛ لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة).
فهذا المثال، وغيره كثير يدل على أنه لا يلزم أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور.
وهذا يدخل في باب تنازع قواعد الترجيح في المثال الواحد، فإما أن نقدم قاعدة (عود الضمير إلى أقرب مذكور)، وإما ان نقدم (ترتيب الضمائر في عودها أول مذكور أولى من تفكيكها؛ لأنه يلزم منه تفكيك النظم بلا حاجة).
ولهذا أمثلة في القرآن في مثل عود الضمير في قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد)، وقوله تعالى (هو سماكم المسلمين)، وغيرها.
¥