وبالجملة فإن الذين أحدثوا طريقة "الحزب الراتب" لحفظ القرآن الكريم واستدامة استحضاره لم يبتدعوا البدعة الضلالة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أحدثوا طريقة علمية تربوية في الحفظ والاستحضار مثلما أحدث عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما طرقا في حفظ الدين. وأنه نشأ عن هذا الاختيار نظام ديني اجتماعي يعتبر الخروج عنه فتنة وفسادا كبيرا.
الأمر الثاني:
يدّعي هؤلاء أن الذين يعتمدون كيفية الحزب الراتب قد خالفوا مذهبهم الذي نهى عن هذا الفعل، ومما يستند إليه هؤلاء:
- ما ورد عن الإمام مالك عندما سئل عن هذه المسألة فقال: [لا أعرفه عن السلف].
ولكن التحقيق أن المراد بهذه العبارة كما قال ابن رشد (): «أن هذا العمل لم يثبت فيه نص» ().
فقول الإمام مالك على هذا لا يحمل على النهي والتحريم، ولكنه يحمل على أمرين:
الأول: تأصيل المسألة ببيان أن الطريقة محدثة ومن ثمّ تعتريها الأحكام المذكورة سابقا.
الثاني: أن هذا منهجه في إيثار الاتباع، وكراهة مخالفة السلف.
- كما يستند المخالف إلى ما تناقله بعض فقهاء المذهب من المنع عن قراءة القرآن جماعة.
ولكنّه متأوّل من وجهين:
1/ حملوا المنع على الكراهة وعلّلوها بالتقطيع، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فقد قال محمد البناني (): «وقد عللوا النهي عن قراءة القرآن جماعة بالتقطيع، ومع ذلك قالوا النهي للكراهة لا أنه منع» ().
قال ابن لبّ: «أما قراءة الحزب في الجماعة على العادة فلم يكرهه أحد إلا مالك على عادته في إيثار الاتباع، وجمهور العلماء على جوازه واستحبابه وقد تمسكوا في ذلك بالحديث الصحيح» ().
2/ حملوا المنع على المعلم يغرر في تعليم تلامذته قراءة القرآن، فإنهم إن قرأوا جماعة لا يعرف الحافظ منهم من غير الحافظ؛ وبالتالي فإنه لا يفي بحقهم في التعلم في مقابل الأجر الذي يتقاضاه. فسّر ذلك القابسي () عندما سئل فأجاب: «إن اجتماعهم على القراءة بحضرته يخفي عليه القوي الحفظ من ضعيفه» (). فإذا زالت علة الغرر زال الحكم بزوالها.
لذلك علّق أبو العباس الونشريسي على اشتهار ذلك عن بعض الأعلام بقوله: «لكن إنما يقرؤون لله تعالى، فلا يدركهم هذا الحكم المذكور، وهذا بعد تسليم جواز الاجتماع على القراءة وهو مذهب الجمهور، وتعضده الآثار الصحيحة» (). أي أنهم لا يتقاضون على تعليمهم أجرا، فلا يلحقهم حكم الكراهة؛ أما جواز القراءة الجماعية في غير وجه التعليم المأجور فهو مسلَّم كما ترى.
- وعلى فرض عدم التسليم، واستصحاب الخلاف، فقد سبق سوق عبارات الفقهاء الصريحة في أنه [لا إنكار في مورد الخلاف] ().
ونضيف عليها قول أبي عبد الله السجلماسي (): «وإذا كان القول المعمول به راجحا بالعمل، لم يجز للقاضي ولا المفتي العدول عنه إلى غيره، وإن كان مشهورا» ().
وقول القاضي المجاصي (): «وخروج القاضي عن عمل بلده ريبة قادحة، لكن يقتصر من العمل على ما ثبت، ويسلك المشهور فيما سواه» ().
وخلاصة القول:
إنّ الأدلة التي ساقها أدعياء البدعية، على قوتها، لا تتوجه على موضوعنا، وهي استدلال في خارج محلّ النزاع؛ فشروط البدعة غير متوفرة في قراءة القرآن جماعة على طريقة "الحزب الراتب". بل إنّ الأدلة التي استند إليها معتمدو هذا المنهج من القوة والتنوّع بحيث تنفي كل ريب أو شك في مشروعية الطريقة.
إن أقلّ ما يمكن أن يقال: إنّ قراءة القرآن جماعة بصوت واحد جائزة إن لم تكن مندوبة ومستحبة، وذلك إذا كانت القراءة صحيحة خالية من اللحن ومن الكبر والرياء، بحيث يراد منها الحفظ والضبط والمراجعة، ولا يعتقد فاعل ذلك أنه يقدم على مكروه تقليدا لمالك، بل يعتقد معنى الحديث النبوي الشريف المتقدم وتقليد من يستحب ذلك ويستحسنه والله أعلم بالصواب.
أما هجر هذه الطريقة ومنعها حتى أمسى بعض الأئمة يؤمون التراويح من المصاحف، وآخرون يلحنون في القراءة، ولا يكادون يحفظون من كلام الله إلا قليلا، بل يعجزون عن الاستشهاد بآي القرآن فخطير خطورة هجر القرآن ذاته.
وإننا نحذر هؤلاء من مثل هذا الغلو، فإن نسيان القرآن فيه وعيد شديد محتمل، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)) [الترمذي وقال: حسن صحيح؛ والحاكم وقال: صحيح الإسناد]؟
¥