تُطلق كلمة المُقام بمعنيين: الأول: معنى الإقامة. والثاني: معنى موضع الإقامة. وقد سمّى الله الجنة (دار المقامة). والمقامة في اللغة مثل الإقامة، قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 33 - 35].
فمن الواضح أن كلمة (مستقراً) تدلّ على المكان، وأن كلمة (مقاماً) تدلّ على الحدث. فكل من الجنة والنار مكان استقرار ومكان إقامة، وكل منهما يحصل فيه استقرار وإقامة. والبيان القرآني جمع بين الكلمتين لتُحمل إحداهما على معنى المكان، ولتُحمل الثانية على معنى الحدث، مع صلاحية كل منهما للمكان والحدث معاً.
(المقيل):
هو المكان الذي ينام الإنسان فيه نومة القيلولة، من قال يقيل إذا نام وسط النهار، ونومة وسط النهار هذه تُسمّى القيلولة. فالمكان الذي ينام فيه وسط النهار يُسمّى المقيل.
وظاهر أن الجنّة هي مستقرّ أهلها، على أن (مستقرّاً) اسم مكان الاستقرار، وأن فيها يكون استقرارهم على أن (مستقرّاً) مصدر ميميّ بمعنى الاستقرار.
وكذلك النار هي مستقرّ لأهلها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65 - 66]. فما هو المكان الذي يقيلون فيه؟ وكيف يقيلون؟
مما سبق نفهم أن الجنة لا تكون مقيلاً، فلا تكون مكان نوم مؤقت، أو راحة مؤقتة، بل هي مكان استقرار دائم، وإقامة دائمة.
وكذلك النار لا تكون مكان قيلولة، لأن في القيلولة راحة، ولا قيلولة لأهل النار، ولو كان دخولهم إليها مؤقتاً للتطهير من الذنوب.
فأين يكون المقيل إذن؟
لقد ذكر القرآن الكريم أن النوم والموت كلاهما وفاة. قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر: 42].
وذكر القرآن الكريم أن اللبث في القبر بين الموت والبعث هو بمثابة حالة تُشبه حالة الرُّقاد، وهو النوم، فالكافرون حين يُبعثون يقولون: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس: 51 - 52].
ويؤكّد القرآن الكريم على أن شعور الناس عن المدّة التي لبثوها بين الموت والبعث يساوي شعور النائم في قيلولته ساعة من نهار، أي أن وضعهم يكون كوضع النائم وقت القيلولة في النهار.
قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الروم: 55].
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ) [يونس: 45].
وقال تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ) [الأحقاف: 35].
وقال تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات: 46].
من هذه النظرات يظهر أن المراد من المقيل في قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) [الفرقان: 24]، هو المكان الذي تبقى فيه أجساد الموتى ونفوسهم منذ الموت حتى البعث إلى الحياة الأخرى.
فحال أصحاب الجنة منذ بدء دخولهم عتبة اليوم الآخر بالموت حتى المصير الأخير، خير من حال الذين لا يرجون لقاء الله عزّ وجلّ، منذ بدء دخولهم أيضاً عتبة اليوم الآخر بالموت، حتى المصير الأخير في العذاب.
وهذه الأخيريّة تتناول مستقرّهم الأخير في دار مُقامهم، وتتناول بقائهم في مضاجعهم ومراقدهم في قبورهم بعد الموت.
فمستقرّ أصحاب الجنة الذي هو مكان إقامتهم الخالدة خيرٌ من مستقرّ الذين لا يرجون لقاء الله، الذي هو مكان إقامتهم الخالدة. ومقيل أصحاب الجنة الذي هو مكان بقاء أجسادهم ونفوسهم بين الموت والبعث، أحسن من مقيل الذين لا يرجون لقاء الله، الذي هو مكان بقاء أجسادهم ونفوسهم بين الموت والبعث.
ويكون النصّ بهذا الفهم أحد الأدلّة التي تُثبت ما ينزل من جزاء حسن أو سيّء في مدّة البرزخ بين الموت والبعث، بالمؤمنين والكافرين. وعلى هذا فالقبر بين الموت والبعث، هو بمثابة روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
والله أعلم
¥