الأول: إن التعذيب المنفي في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وأمثالها هو التعذيب الدنيوي فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة، وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور، واستظهر هو خلافه، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه.
الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) الآية وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل، أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يقرّون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر، لكنهم غالطوا أنفسهم فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.
الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله - صلى الله عليه وسلم - تقوم عليهم بها الحجة، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في (الآيات البينات) وقد قدمنا في سورة آل عمران أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم كقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)، وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك) وقوله: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)، إلي غير ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ) - إلى قوله – (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) من الآيات المتقدمة، بأنهم لا يتبين أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار، ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان كأبي طالب، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى.
واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار كحديث "إن أبي وأباك في النار" الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث - وإن صحت - فهي أخبار آحاد يقدم عليها القاطع كقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم، واعترض هذا الاعتراض أيضاً بأن هذا التخصيص يبطل علة العام؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف.
وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وبيّن أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها كما صرح به في قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وهذه الحجة بيّنها في سورة طه بقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ) الآية، وأشار لها في سورة القصص بقوله: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) إلى قوله: (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله: - في تعداد القوادح في الدليل -:
منها وجود الوصف دون الحكم ... سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح ... بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روى عن مالك تخصيص ... إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ... ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهر ... وليس فيما استنبطت بضائر
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع ... والوفق في مثل العرايا قد وقع
¥