الوجه الأول: أن يكون أحدهما مخالفاً للآخر، خلا أن بينهما مناسبة، وهذا نحو قوله تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران: 120] فالمصيبة مخالفة للحسنة من غير مضادّة، إلا أنّ المصيبة لا تقارب الحسنة، وإنّما تقارب السيّئة، لأنّ كلّ مصيبة سيّئة وليس كلّ سيّئة مصيبة، فالتقارب بينهما من جهة العموم والخصوص. وهكذا قوله تعالى: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] فالرحمة ليست ضدّاً للشدّة، وإنّما ضدّ الشدّة اللين، خلا أنّه لمّا كانت الرحمة من مسبّبات اللين، حسُنت المطابقة وكانت المقابلة لائقة.
الوجه الثاني: ما لا يكون بينهما مقاربة وبينهما بُعد لا يتقاربان ولا مناسبة بينهما، ومثاله ما قاله أبو الطيب المتنبي:
لمَن تطلب الدّنيا إذا لم تُرد بها ... سرور مُحبّ أو إساءة مُجرمٍ
فالمقابلة الصحيحة أن تكون بين محبّ ومبغض، لا بين محبّ ومجرم، فإنّ بين المحبّ والمجرم تباعداً كبيراً، فإنّه ليس كلّ مَن أجرم إليك فهو مبغض لك. وممّا يجري هذا المجرى ما قاله بعض الشعراء:
فكم مِن كريم قد مناه إلهُه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الهَنِ
فقوله: بمذمومة الأخلاق واسعة الهَنِ، من باب المقابلة البعيدة التي لا مناسبة فيها وكان الأخلق (بضيّقة الأخلاق وساعة الهَنِ).
الضرب الرابع: المقابلة للشيء بما يماثله، وذلك يكون على وجهين:
الوجه الأول: مقابلة المفرد بالمفرد، كقوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40]، وقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، وقوله تعالى: (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) [الروم: 44]، وغير ذلك من الأمور المفردة، فضابط المماثلة أنّ كلّ كلام كان مفتقراً إلى جواب يكون مماثلاً كما قرّرناه.
الوجه الثاني: مقابلة الجملة بالجملة، كقوله تعالى: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54]، وقوله تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي) [سبأ: 50]. فما هذا حاله من المقابلة في الوجهين جميعاً له حظّ في البلاغة، ومقصد عظيم لا يخفى على مَن له أدنى ذوق مستقيم.
ولعلّ هذا التقسيم أقرب شيء إلى التقسيمات الحديثة التي تجعل المقابلة قسمين، قسم فيه تضادّ حقيقيّ بين الكلمات أو الجمل، وقسم آخر ليس فيه تضادّ حقيقيّ وإنّما تقابل بين الكلمات أو الجمل المتماثلة أو شبه تضادّ. وسنقف إن شاء الله عند بعض الأمثلة لهذه الظاهرة العجيبة في القرآن الكريم.
ـ[أبو طارق]ــــــــ[12 - 08 - 2006, 11:16 ص]ـ
بارك الله فيك أستاذ لؤي وجزاك الله خيراً
ـ[أبو سارة]ــــــــ[12 - 08 - 2006, 11:33 ص]ـ
أهلا بأستاذنا الحبيب الأديب الأريب
شكرا على هذه الدرر، جزاك الله عنا كل خير.
ـ[الضاد1]ــــــــ[12 - 08 - 2006, 04:12 م]ـ
بوركت أخانا لؤي، هل يرد في هذا الباب آية تقابل آية تتبعها من مثل: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ¤ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون: البقرة: 81، 82
طبعا هذا على سبيل المثال لا الحصر. فهناك الكثير من الآيات في الكتاب الحكيم بهذا الأسلوب.
وشكرا لكم
ـ[الضاد1]ــــــــ[15 - 08 - 2006, 04:21 م]ـ
أخي لؤي آسف على العجلة في السؤال، لأن سؤالي موجودة إجابته في مشاركتك:
وهكذا قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5 - 7] فقوله كذب وصدق، وقوله اليسرى والعسرى من باب الطباق اللفظي، وقوله أعطى مع قوله بخل فإنّما هو من الطباق المعنوي لأنّ المعنى في أعطى كَرُمَ ليطابق بخل في معناه دون لفظه.
وشكرا لك
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[27 - 08 - 2006, 10:31 م]ـ
بارك الله فيكم جميعاً
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[27 - 08 - 2006, 10:46 م]ـ
قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر: 19 - 23].
في هذه الآيات عرض لمجموعة من الأشياء المتضادّة بطريقة التقابل، وفيها بيان يثبت المفاضلة بين الشيء وضدّه للوصول إلى القيمة الدينية الكبرى وهي أنّ الحق والباطل لا يستويان أبداً.
ومراد الآيات هو الإلفات إلى أنّ الأمور ليست على وجه واحد، وإنّما لكلّ أمر وجهان، وجهٌ وضدٌّ لهذا الوجه مثل الوجود والعدم، والحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظلّ والحرّ، والعذب والملح ...
والمطلوب من الخصم في هذا المقام أن يعترف بأنّ الشيء الذي يمسك به ليس هو كلّ شيء، وإنّما يقابله نقيضه الذي يجب أنْ ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه على الوجه الآخر الذي لهذا الشيء.
إنّ القرآن الكريم من خلال طريقة المقابلة بين هذه المتضادّات يدعو إلى تحريك قوى النفس لدى الإنسان، وبخاصّة قوّة العقل كي يقيم الإنسان موازنة بين الأشياء المختلفة، ويعلم حقيقة الشيء وما يناقضه، ثم يخرج بحكم نهائي وفق منهج النظر السليم، والمفاضلة الدقيقة، ليسير عليه في حياته على بصيرة ونور.
أمّا الإنسان الذي يعتمد على وجه واحد في تبنّي منهجه في الحياة دون معرفة تامّة بالوجه الآخر الذي يقابله غالباً ما يقوده هذا إلى الخطأ والضلال، وقديماً قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه"، أي أنّ المعرفة بالشيء وما يقابله هي التي تعطي التصوّر الكامل عن الأشياء، وهي التي تجعل منهج الاختيار مبنيّاً على قواعد ثابتة ونظرات دقيقة.
¥