تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا موقفه مما سماه (بلاغة العجم) فما موقفه من بلاغة العرب؟ يقول:" فاعلم أنه ليس أَنَّ العرب أعطوا البلاغة، ولم يعطوا تمييزاً بين محاسن الكلام ومساويه، وانتباهاً لمواضع الجودة والرداءة فيه، فإنّهمْ كانوا يُباهون ببراعة الكلام، ويحكّمون بينهم مَنْ كان أبصرهم بنقده" ثم يقول "إنَّ سبيلهم في نقد الكلام لم يكن كسبيل صاحب (أسرار البلاغة) وهو القدوة للذين جاءوا من بعده فاتَّبعوا خطواته فكان سبيله سداً بينهم وبين العرب. فلو التزموا كلام العرب ولم يلتفتوا إلى أصول مَهّدها المبعدون، لكان خيراً لهم، وكانوا أقرب إلى معرفة إعجاز القرآن من طريق الذوق، وإن لم يكونوا من طريق الصناعة" (ص4).

وجرّه هذا إلى نقد نظرية المحاكاة التي نادى بها أرسطو، وقال:" فلو قال: إنّ الشعر بل كل كلام ونغم جنسه الأعلى تصوير لكان أقرب، إذ ليس بين المحاكاة والتصوير إلا فرق يسير، ولكنه أبعده عن الصواب خطؤه في غاية الشعر ومادته ومبدئه. وكان مثار خطئه كلام قومه واستعمالهم إياه. ولو بحث عن أمر الشعر على طريق الفلسفة، ونظر فيه من جهة العلل التي ألحَّ على البحث عنها فيما بعد الطبيعة وردّ فيه على الحكماء الأقدمين لم يَخْفَ عليه الصواب بعد الاقتراب ولم يلتبس عليه غاية الشعر" (ص4 - 5). وذلك لأَن أرسطو يزعم مرة أنها الأثر والإطراب، ويزعم تارة أخرى أنها القصة، ولعل سبب ذلك أَنَّ "كتابه على الشعر بداية ريعان حكمته" (ص5) ورأى أَن الأَوْلى الصفح عن باطله لولا أَنَّ العلماء المسلمين حينما أَلَّفوا في البلاغة أذعنوا له فيما مَهَّدَه. ولو نظر الرجل في كلام العرب لأصاب الحقَّ، ولكنه "نظر في كلام قومه فبنى فن نقد الشعر حسب ما وجد في أحسن كلامهم" الذي كان الشعر منه قصصاً وحكايات مكذوبة مثل نظم هومروس وسوفاكليس وغيرهما، فأمعن فيها لاستنباط أصول النقد ومناط المحاسن "وهذا هو الطريق فإن المحاسن توجد أولاً، ثم أهل النظر يستخرجون منها الأصول" أي أَنَّ أصول البلاغة والنقد تُستنبط من الكلام الذي يُدرس لا كلام لغة أخرى، وهذا ما جعل أرسطو يستنبط تلك الأصول لأنه رأى غالب صفة الكلام المستحسن عند اليونان قصة وحكاية عن الوقائع، ودفعه إلى ذلك أمران:

الأول: أَنّ الإنسان حاكية بالطبع أكثر من سائر الحيوان، فهذه الصفة أنسب بطبعه، وأحبها إليه.

الثاني: أَنَّ العلم مرغوب بالطبع، وحكاية الشيء تُخبر عن المحكي عنه، فلذلك هي محبوبة.

ولهذا تَمَسَّكَ أرسطو بالمحاكاة وتعصَّب لها، ورَدَّ كل امرئ رأى خلافه، ولما كان جل أشعار اليونان "للتلذذ والتلهي في محافل المسامرة ونادي اللهو بحكايات مضحكة أو مبكية، لم يجد لمحاسن الأشعار غاية إلا الإطراب فقال: إِن يكن الصدق لا يطرب فينبغي للشاعر أن يزيد أو ينقص. ولم يكن في هذا الرأي بِدْعا في قومه فإنه ظن كما ظنوا فإن اسم الشاعر عندهم (المختلق) الذي يصنع الحكايات والقصص لإطراب السامعين" (ص6).

ولما رأى البلاغيون العرب أَنَّ أرسطو أَسَّسَ الأمر على مهارة الاختلاق "سبق إلى ظن بعضهم أَنَّ أحسن الشعر أكذبه، وإذ ليس في أشعار العرب من أمر القصة والحكاية إلا التشبيه ظنوا أنّ الغلو في التشبيه من المحاسن. وكما أن المحاكاة صارت عمود الرجاحة عند أرسطو فكذلك صار التمثيل والتشبيه الذي يشابه القصة عندهم قطب البلاغة. ثم أنهم وافقوه في عين هذا الرأي فإنه قال في محاسن الكلام:"إنّ أعلى كمال البليغ أَنْ يكون حاذقاً في استعمال التشبيه" وقال صاحب (أسرار البلاغة):" كأن جلّ محاسن الكلام إِنْ لم نقل كلها متفرعة عنها أنواع التشبيه وراجعة إليها". وأدَّى هذا القول إلى أن "المتكلفين من المولَّدين عكفوا عليه، فغاب عنهم ما كان للعرب من سِحْرِ الكلام وإِعجازه" ونظروا إلى الاستعارة التي هي مبالغة في التشبيه هذه النظرة "فغلب على ظنهم أَنَّ الحسن أميل إلى الكذب" (ص7) واستدرك الفراهي قائلاً:" وإِنّا لا نُنكر محاسن التشبيه وأنواعه، ولكنا نجعله متفرعاًَ عن أصل غير التشبيه، وأساسه الصدق، خلاف ما سمعت من مذهب أرسطو وأمثاله".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير