تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد ذهب الفراهي بعيداً في هذا التصور؛ لأَن العرب لم يأخذوا مفهوم التشبيه والاستعارة من نظرية المحاكاة التي قال بها أرسطو، إِذ هذان الفنان معروفا الأهمية في كلام العرب، ولا سيما التشبيه الذي قال عنه المبرد:" والتشبيه جارٍ كثير في الكلام – أعني كلام العرب- حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد" (الكامل ج3 ص818 - طبعة زكي مبارك)، وتكلم عليه، وأشار إلى أنواعه، وإلى ما يحسن منه، وما لا يحسن في عدة مواضع من كتابه (ج2 ص740 وغيرها). ومثل ذلك الاستعارة التي لم يكن مفهومها بعيداً عن مدارك العرب، بل إن غرابة التَّصور والخيال من محاسن أشعار العرب، ألم يستحسن حسان بن ثابت عبارة ابنه في التشبيه قبل أن يُؤلف العرب في البلاغة، ويطلعوا على كتابي "الشعر" و"الخطابة" لأرسطو، فقد رجع عبد الرحمن إلى أبيه حسان يبكي ويقول:" لسعني طائر" فقال حسان:" صِفْهُ يا بُنيّ" فقال:"كأنه ملتف في بردي حبرة" وكان قد لَسعَهُ زنبور، فقال حسان:" قال ابني الشعر وربِّ الكعبة". أليس في هذا ما يدل على بُعْدِ الخيال والاستعداد لقول الشعر والتصوير؟ فالغلو في التَّصوير مذهب معروف في الشعر العربي القديم، وإن التصوير البعيد ليس غريباً، وهو ليس كذباً، وإنْ كان بعضهم يميل إلى عرض الحقيقة كما هي، وقال إِنَّ "أَحْسَنَ الشعر أصدقه".

ويعود الفراهي إلى المحاكاة ويرجِعُها إلى النطق لأَن "الإنسان في فطرته ناطِق" ولذلك "فإن النطق هو الفصل المقوِّم له لا المحاكاة كما زعم أرسطو" (ص8) وكان قد قال في أول الكتاب:" إِنَّ البيان كالظل والأَثر للنطق الذي هو مُقوِّم للإنسان" (ص1) والنطق "مُودَع في فطرته – أي الطفل- وكل قوة تلتمس الوسيلة للعمل". ويمضي الفراهي في إيضاح ذلك مؤكداً فهمه ورأيه في المحاكاة، وربط البيان بالنطق الذي هو "زهرة تخرج من كمال الفَهْم وصلاح البنية" (ص9) ولو "لم يكن النطق في الإنسان لما استطاع المحاكاة"، وقوة النطق هي العلة الفاعلية وأما "المعاني ثم الألفاظ فهما المادة، فالنطق يأخذ المعاني ويُلبسها ألفاظاً سواء مما ابتدعها، أو مما تعلمها الإنسان بوسيلة المحاكاة".

هذا موقف الفراهي من المحاكاة التي شغلت أرسطو والفلاسفة المسلمين والمعاصرين، وهو رأي ينبثق من فهمه للكلام الذي لا يريدُهُ تقليداً أو محاكاة للواقع لئلا يؤخذ الطيب والخبيث، وهو ما لا يؤمن به من يربط الكلام عامة والشعر خاصة بالأخلاق. ويتضح هذا في قوله:" اعلم أَنَّ حسن البلاغ وكماله يحتوي حسن ما يبلغه من الصُّوَر والمعاني وهو أولى باللحاظ فلا نقيمُ وزناً لكلام أبلغ بكمال الصحة شيئاً خبيثاً من نفس متدنية، فالخَرَسُ أحسن من هذا النطق. وهذا رأي يستدعي بياناً لصحته، فإن أبا جعفر قدامة صاحب (نقد الشعر) وهو أول مَنْ جعله فناً من العلوم قال قولاً يضل به الغافل وإن كان له وجه صحيح، فقال:" ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يُزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته" وقال أيضاً: إِنَّ الشاعر ليس يوصف بأَنْ يكون صادقاً، بل إنما يُراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني كائناً ما كان أن يجيده في وقته الحاضر" فلم يرد من الشعر إلا شيئاً نازلاً وصناعة دنية ... ونحن نلتمس محاسن الكلام كما يليق به وكما وضعته الفطرة الإلهية، ويقتضيه كمال قوة النطق، ويستعمله الشاعر أو الخطيب الجديد بهذا الاسم" (ص9 - 10).

والشعر عند الفراهي قسم من أقسام الكلام "والكلام ليس اسماً للجرس المحض، بل هو شيء مركَّب من المعنى والصوت، والشيء المركب يحكم بحسنه لحاظاً إلى أصل الأمر فيه" أَي أنَّ النظرة يجب أن تكون كلية، وأنْ يُحكم على الكلام مجموعاً، ولا يكون حسناً إذا اختلَّ جانب من جوانبه أو سقط ركن من أركانه، ويضرب مثلاً فيقول:" إنك لا تصف بالملاحظة وجه أعور أفطس إذا وجت إحدى عينيه مليحة، فكذلك الأمر في حسن الكلام. نعم إنْ شئتَ قلت: إنَّ وزن هذا الشعر أو صوته حسن، ثم نُؤزّر هذا الرأي بأمر أقرب إلى الكلام من جهة الإبلاغ، وهو أن الكلام لا يبلغ قلب العاقل إلا أن يكون معناه شريفاً، ولا اعتبار لتأثُّر الحمقى والأَشرار، فإِنّنا إِنما نُعطي الأشياء أسماءً لحاظاً إلى سلامة الحال، وإلا لزمك أن تسمي الكلام حسناً وقبيحاً معاً، أو لا تسميه شيئاً. وهذا أمر يتضح لك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير