27 - إذا قال بعض المتأخرين، كالذهبي وابن حجر: "إن فلاناً من النقاد تعنَّتَ في فلان من الرواة "، أو نحو هذا المعنى، فهذا ليس فيه وصف ذلك الناقد بالتعنت، فالمرة الواحدة من التعنت شيء، وصفة التعنت اللازمة - أو الغالبة - شيء آخر، وقد رأيت بعض الباحثين المعاصرين خلط في هاتين المسألتين.
"
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[18 - 03 - 06, 03:55 ص]ـ
"
28 - سئل أبو الحسن حفظه الله في (إتحاف النبيل) (1/ 90) عن كيفية معرفة المتشددين والمتساهلين؛ فأجاب بما حاصله أن ذلك يعرف بنص العلماء أو بالاستقراء أو بتصريح الناقد بالتزامه قاعدة فيها تساهل أو تشدد كقاعدة ابن حبان في التوثيق وكقاعدة الامام مالك بأن العلم لا يؤخذ الا عمن اشتهر بطلب الحديث وطال اشتغاله به، وقد رد ذلك الحافظ في "لسان الميزان"، ونسب القائلين بهذه القاعدة إلى التعنت.
29 - إن الاعتدال والاصابة في الأحكام هما الغالبان على الأئمة، ومن لم يُعرف بالتساهل الواضح العريض أو بالتشدد الغالب البيِّن، فلا معنى للتوقف في قبول أقواله، بل ولا حاجة إلى التثبت في أحكامه إلا إذا خالفه غيره، أو قامت قرينة أخرى مقتضية للتثبت والتأني؛ ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقاً بأن الجارح كان متشدداً، ولا ترجيح الجرح مطلقاً بأن المعدل كان متساهلاً، وإنما يستدل بكون هذا متشدداً أو ذاك متساهلاً على قوة احتمال الخطأ إذا كان محتملاً.
فأما إذا لزم من اطراح الجرح أو التعديل نسبة من صدر منه ذلك - وهو الناقد الثقة - إلى افتراء الكذب أو تعمد الباطل ومخالفة الحقائق المعروفة عنده أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله من مثله فذلك الاطراح لا يصح، بل هو يحتاج حينئذ إلى بينة أخرى؛ فلا يكفي فيه إثبات أن الناقد كان متساهلاً أو متشدداً؛ وقارن بما في (التنكيل) (ص245).
30 - ثَمَّ فرق ظاهر بين تشدد الراوي - أو تثبته - في انتقاء شيوخه أو رجال كتابه أو أحاديثه، وبين تشدده في التعديل والتجريح؛ وعدم ملاحظة هذا الفرق أوقع طائفة من المتأخرين في وصف بعض المعتدلين - كالنسائي - بالتشدد.
"
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[18 - 03 - 06, 04:13 ص]ـ
"
31 - من الفروق التي يحسن بيانها في هذا الموضع الفرق بين تساهل الناقد، وتسرعه، ومجازفته، وتعصبه، وضعفه، وقلة تثبته، وكثرة خطئه، فأقول:
التساهل يكون ابتناؤه على القواعد.
والمجازفة مبنية على الاعتداد بالنفس من جهة العلم والمعرفة والاطلاع، أو ناشئة عن الجرأة وقلة المبالاة.
والتسرع مثلها، أو قريب منها؛ وكذلك قلة التثبت.
والتعصب مبني على الهوى، لا على القواعد؛ بل هو في الحقيقة مبني على قواعد متأثرة بالهوى.
وأما كثرة خطأ الناقد فناشئة عن خطأ وخلل في قواعده، أو نقص في اطلاعه، أو تسرع ومجازفة وقلة تثبت في استنباطه لأحكامه.
وأما ضعف الناقد فقد يراد به ضعفه في روايته أي في ضبط ما يرويه، وقد يراد به ضعفه في نفسه أي في عدالته، وقد يراد به ضعفه في أحكامه، أي بكثرة خطئه فيها.
32 - كل واحد من التساهل والتشدد يتفرع عن أحد أمرين:
الأول: قاعدة يخطئ فيها الناقد مثل أن يكون الأصل عنده في التابعين خاصة أو في الرواة عامة – بما فيهم مجاهيل الأعيان – أنهم ثقات إلى أن يقوم الدليل على خلاف ذلك.
الثاني: ميل وهوى لجماعة مخصوصة أو عليهم، مثل أن يكون الناقد متعصباً لأهل مذهبه الفقهي، أو متحاملاً على مخالفيه في المعتقد، ومثال الصنف الأول الدولابي ثم ابن التركماني الحنفيان رحمهما الله، ومثال الصنف الثاني الحافظ الجوزجاني رحمه الله.
فمن عُلم منه مثل هذا التعصب فهو داخل في جملة مسمى المتساهلين أو المتشددين، أي بحسب حاله، وإن لم يصرح أحد من النقاد بأنه متساهل في نقده أو مشدد فيه.
"
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[18 - 03 - 06, 09:41 ص]ـ
"
33 - يتساهل أكثر المتأخرين في كثير من مسائل وأبواب النقد الحديثي، ومن أخطر وأبرز أنواع تساهلهم ما يلي:
1. التساهل في الحكم على الحديث، قبولاً ورداً، مع أن الأمر شديد وهو أخطر من الإفتاء، ولا يحتمل أي قدر من تساهل أو تهاون.
2. التساهل في تقوية الحديث بكثرة طرقه.
3. التساهل في تقوية الحديث بشواهد المعنى وأحاديث الباب.
4. التساهل في دفع النكارة عن كثير من الأحاديث التي استنكرها العلماء المتقدمون.
5. التساهل في الجمع بين الروايتين اللتين في واحدة منهما شيء من مخالفة أو شذوذٍ أو نكارةٍ.
6. التساهل في تقوية الأحاديث التي تفردت بها كتب التواريخ أو الجرح والتعديل أو أجزاء المتأخرين ونحوها، مع أن في مثل ذلك التفرد دلالات يعرفها أهل العلم بالحديث.
7. التساهل في قبول الغرائب وعامة ما تفرد به ثقة من الرواة، ولو كان حاله مما لا يحتمل ذلك التفرد، أو دلت القرائن على عدم حفظه لذلك المروي.
8. التساهل في قبول زيادات الثقات.
9. التساهل في رد كلام علماء العلل وجبال الحفظ والفهم جهابذة الصناعة الحديثية.
10. التساهل في الاعتماد على نسخٍ بعيدة عن الصحة والإتقان أو حافلة بالسقط والتصحيف والتشويه.
11 - التساهل في الاعتماد على قواعد لبعض المتكلمين وأهل المنطق، أو من تأثر بهم من أهل الرأي والأصوليين والفقهاء، مع مخالفتها لقواعد المحدثين، تلك القواعد الصحيحة المقررة المحررة.
والله المستعان.
"