إمعانٌ في التأصيل والتقعيد لمعاني التسهيل والتشديد
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[02 - 02 - 06, 05:10 م]ـ
"
"
الحمد لله.
هذه قواعد وضوابط في مسائل التشدُّد والتسَهُّل عند النقاد.
1 - إن شأن النقد في الروايات مبني على الاحتياط والتشدد، ومعنى هذا أن المتساهلين من المحدثين والنقاد، أبعدُ عن المطلوب، من المتشددين منهم؛ قال المعلمي في (التنكيل) (ص218 - 219):
(لا يلزم من التسامح في الشاهد [أي الذي يحتمل أن يكون كذاباً في حديث الناس، بسبب ابتلاء أكثر الناس بذلك] أن يُتسامح في الراوي الذي هو كذلك لوجوه:
الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس ويتعرض للجرح فوراً [أي وهذه المطالب ليست مرادة في الرواية كما أنها ليست مرادة في حديث الناس]، فمن جربت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر: فخوفُ أن يجره تساهله في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ مِن خوفِ أن يجره إلى شهادة الزور.
الثاني: أن عماد الرواية الصدق، ومعقول أن يشدد فيها [أي في الرواية] فيما يتعلق به [يعني بعماد الرواية] ما لم يشدد في الشهادة؛ وقد خُفف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفف في الشهادة، تقوم الحجة بخبر الثقة ولو واحداً أو عبداً أو امرأة أو جالبَ منفعةٍ، إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوه – كما يأتي – بخلاف الشهادة.
فلا يليق بعد ذلك [يعني التخفيف] أن يخفف في الرواية فيما يمس عمادها.
[أي أن التخفيف الحاصل في الرواية فيما لا يتعلق بالصدق تعلقاً معتبراً لا بد أن يقابله تشديد، أو عدم تخفيف، فيما يتعلق بالصدق تعلقاً مباشراً أو بيناً معتبراً].
الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشد جداً من الضرر الذي يترتب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد؛ وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته.
والتخفيف في الرواية، بما تقدم من قيام الحجة بخبر الرجل الواحد وغير ذلك، لا ينافي كونها أولى بالاحتياط، لأن لذلك التخفيف حِكماً أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفاً على تخفيف.
الرابع: أن الرواية يختص لها قوم محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب، والشهادة يُحتاج فيها إلى جميع الناس، لأن المعاملات والحوادث التي يُحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد، ولا يحضرها غالباً الا أوساط الناس وعامتهم، الذين ينشأون على التساهل؛ ومعقول أنه لو ردت شهادة كل من جربت عليه كذبةٌ لضاعت حقوق كثيرة جداً.
ولا كذلك الرواية؛ نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم وما يقع من الانسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه، وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه، وصاحبه مع ذلك مستوحش منه، ربما يغتفر والله أعلم).
انتهى هذا الكلام البديع والتحقيق النفيس.
ومن أراد تفصيل أنواع الفروق بين الشهادة والرواية، زيادة على ما ذكره العلامة المعلمي، فليراجعها في (تدريب الراوي) للسيوطي، فقد قال (1/ 331 - 334):
(فائدة: من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية والشهادة وقد خاض فيه المتأخرون، وغاية ما فرقوا به الاختلافُ في بعض الأحكام كاشتراط العدد وغيره، وذلك لا يوجب تخالفاً في الحقيقة؛ قال القرافي: أقمت مدة أطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام المازري، فقال: الرواية هي الإخبار عن عامٍّ لا ترافع فيه إلى الحكام، وخلافه الشهادة.
وأما الأحكام التي يفترقان فيها فكثيرة لم أر من تعرض لجمعها وأنا أذكر منها ما تيسر)؛ ثم ذكر واحداً وعشرين فرقاً).
2 - المتساهلون في الحديث أقسام:
القسم الأول: النقاد الذين يتكلمون على الأحاديث ورواتها من حيث القوة والضعف، وهم المقصودون أصالة بالبحوث الحديثية التي تعنى بمناهج النقاد، ومنه هذا البحث.
والثاني: الفقهاء والمفسرون وسائر العلماء الذين يحتجون بالأحاديث؛ وهؤلاء ليسوا على شرط البحث، وإن كان الاحتجاج بالحديث الضعيف يلزم منه غالباً عند من يحتج به ثبوته لديه.
¥