وهؤلاء أئمة كبار؛ ولكن الحاكم كان همه في كثرة الجمع، ليرد على من قال من المبتدعة: إنه لم يصح عند أهل الحديث إلا ما في (صحيحي البخاري ومسلم)، كما ذكره في مقدمة (مستدركه)، فجمع ولم يحقق ولم ينتقد، وكان عزمه أن ينظر في الكتاب مرة أخرى ليخرج منه ما ليس من شرطه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، كما ذكره السخاوي في (فتح المغيث).
وقد انتقد أحاديثه الذهبي وابن دقيق العيد، وطبع كتاب الذهبي مع (المستدرك) ولكني وجدته يتسامح أيضاً، فكثيراً ما يكون في الحديث رجل مدلس ولم يصرح بالسماع؛ أو رجل اختلط بأخرة، وإنما أخرج له الشيخان في (صحيحيهما) عمن سمع منه قبل اختلاطه؛ أو رجل ضعيف قد انتقد الأئمة مسلماً أو البخاريَّ في الرواية له في (الصحيح).
ومع هذا يسكت الذهبي عن بيان ذلك.
وهكذا يسكت عن علل أخرى تكون في الأحاديث؛ والله المستعان.
وأما ابن حبان؛ فمن أصله - كما نبه عليه في كتابه (الثقات) - أن المجهول إذا روى عن ثقة وروى عنه ثقة، ولم يكن حديثه منكراً؛ فهو ثقة، يذكره في (ثقاته)، ويخرج حديثه في (صحيحه) [في الأصل (صحاحه)]، ووافقه على هذا شيخه ابن خزيمة، إلا أنه [أي ابن خزيمة] أشد احتياطاً منه.
وكذلك الدارقطني.
ويظهر لي أن العجلي صاحب (الثقات) كذلك.
وهذا [يعني مذهب ابن حبان ومن وافقه] قول واه مخالف لما عليه جمهور الأئمة [كذا، ولعل الصحيح هو (العلماء) أو (النقاد) أو (أهل الحديث) أو نحو ذلك، بدل الأئمة]، والأئمة المجتهدون وجهابذة الفن.
والنظر الصحيح يأباه.
وأما الترمذي فله اصطلاح في التحسين والتصحيح؛ وهو أن الحديث إذا روي من طريقين ضعيفين يسميه حسناً، والأئمة المجتهدون وغيرهم من الجهابذة لا يعملون بهذا الإطلاق، بل يشترطون أن تحصل من تعدد الطرق - مع قوة رواتها - غلبةُ ظن للمجتهد بثبوت الحديث.
فإن لم تحصل هذه الغلبة فلا أثر لتعدد الطرق، وإن كثرت.
والمتأخرون يعرفون هذا الشرط، ولكنهم كثيراً ما يتغافلون عنه، وربما توهم أحدهم أنه قد حصلت له غلبة ظن؛ وإنما حصلت له [أي غلبة الظن] من جهة موافقة ذلك الحديث لمذهبه أو لمقصوده؛ والله المستعان).
بل إن في (الصحيحين) أو أحدهما أحاديث قد انتقدها الحفاظ، مثل حديث البخاري {حدثنا محمد بن عثمان حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب؛ وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه؛ وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببُته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه؛ وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءته "}.
فهذا الحديث قد تكلم فيه الذهبي في (الميزان) في ترجمة خالد بن مخلد؛ وخالد بن مخلد قال فيه الإمام أحمد: له أحاديث مناكير؛ وقال ابن سعد: كان متشيعاً منكر الحديث في التشيع مفرطاً، وكتبوا عنه للضرورة [قلت: أي كتبوا عنه غرائبه التي لم يجدوها عند غيره، لحاجتهم إلى معرفتها، فكتابتها تفيد تحصيلها ومعرفتها، وذلك إذا انتهى التحقيق إلى قبولها ولو في الجملة، وهو بناء على عدم الجزم بحاله وعلى احتمال أن يظهر أنه قوي الحديث مقبوله؛ أو تفيد تحقيق أو تأكيد ضعفه، وذلك فيما إذا قامت القرائن على ترجيح ضعفه؛ فهذا القول من ابن سعد قريب من قول أبي حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به].
وقال صالح جزرة: كان ثقة في الحديث، إلا أنه كان متهماً بالغلو.
وقال ابن أعيُن: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل لي: في المثالب، أو المثاقب!
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به؛ وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء؛ وقال ابن معين: ما به بأس.
¥