تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهكذا هو الأسلوب القرآني مبني بما يجعله يشع بكل اتجاه ملبياً كل حاجة مخاطباً كل ملكة عند الإنسان وبما يجعله قابلاً لقراءاتٍ متعددة وبصورة جديدة تحمل القارئ على أن يحلق بخياله دونما تجاوز لأي حقيقة تاريخية كانت أم لغوية وبهذا نفهم ما ذهب إليه الشيخ الطاهر بن عاشور في ذهابه إلى أن التثنية في كرتين ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد (44)، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير (45)، فكرتين تثنية كرة وهي المرة وعبّر هنا بالكرة وهي مشتقة من الكرِّ وهو العَود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه (46) والعجيب أن لفظة (كرتين) تعطي المعنيين السابقين عند المفسرين فكل كرة هي ذهاب بعد رجوع فيكون الحاصل أربع مرات، فالتثنية مرادة إذن ولكن ليس بمعنى المرتين (47)، وبهذا يفهم سر إيثار كرتين في الاختيار - كما يقول ابن عاشور - دون مرتين وتارتين (لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضياً تثنية (مرة) في قوله تعالى: (الطلاق مرتان) (البقرة: 229) (48).

التعبير عن المثنى بالجمع:

قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صنعت قلوبُكما) (التحريم: 4) والعرب تعبر عن التثنية بلفظ الجمع ولا يرجحون التثنية كراهية أن يجمعوا بين تثنيتين في اسم واحد (49)، وهذا هو الأكثر والمطرد في كلام العرب فيما كان في الجسد منه شيء واحد لا ينفصل كالرأس .. والقلب (50) فـ (الخطاب إلى الأثنين والفاعل جمع وهذا شيء عرفناه في لغة التنزيل اقتضته حكمة وبلاغة) (51)، فإذا كان الخطاب هنا لمثنى مؤنث (52)، فيكون لهذا الاختيار قصدٌ في استخدام هذا الأسلوب قال تعالى: (… ما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه) (الأحزاب: 4) ووفقاً لمفهوم المخالفة يكون لازم الآية (قد جعل الله للمرأة قلبين في جوفها) صحيحاً لأن المرأة عند الحمل تمتلك قلبها وقلب جنينها وبذلك نعرف السر في عدول الآية عن القول (في صدرها) إلى (في جوفها) مع أن القلب في الصدر، ليدخل الرحم في لفظ (الجوف) فأيّ دقةٍ أعلى في الاختيار وأي قصديةٍ أبدع في العدول من هذه، وبهذا استخدم القرآن الأسلوب العربي في التعبير لغرضٍ بلاغي دقيق دون مخالفة للحقيقة وفي هذا غاية الإعجاز.

ثالثا ً: الاختلاف بين المفردة والجمع:

من الظواهر الأسلوبية اللافتة في التعبير القرآني ملائمة صيغة الأفراد لموقعها الخاص بها وملائمة صيغة الجمع لموقعها الخاص بها (فالسماء) ترد مجموعة في آيات كثيرة على حين ترد (الأرض) مفردة دائماً وفي القرآن كله. مع أنها تنتظم وأيّاها في سياق واحد (53)، وقد اختلف في سبب ذلك قديماً وحديثاً ذكر ابن القيم عدة أسبابٍ لذلك تندرج تحت سببين أساسيين هما (فَرقٌ لفظي) و (فرقٌ معنوي):

أما اللفظي: فالأرض على وزن ألفاظ المصادر الثلاثية كضَرب والذي يماثل وزنها ومعناها السَفْل والتَحْت وهما لا يثنيان ولا يجمعان وفي مقابلتهما بالفوق والعلو وهما كذلك لا يجمعان (54)، وأحسن من هذا الفرق أنه لم يقل (سبع أرضين) لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ ويختل بها نظم الجملة اختلالاً (55) فلو أريد جمع الأرض على قياس جموع التكسير لقيل آرض كأفلس أو آراض كاجمال أو أروض كفلوس - فجمعها (في القلة (آراض) بالمدّ على أفعال كألف وآلاف وفي الكثرة أروض بالضم قياسي أيضاً كألوف، وجمعت شذوذاً على أراضٍ كما شذّ جمع أهل على أهالٍ (56) - فاستثقلوا هذا اللفظ إذ ليس فيه من الفصاحة والحسن والعذوبة ما في لفظ السموات، وأنت تجد السمع نابياً عنه بقدر استحسانه لفظ السموات لهذا تفادوا من جمع (أرض) إذا أرادوه بثلاثة ألفاظ تدل على التعدد كما قال تعالى: ( ... خلق السموات ومن الأرض مِثلهن) (الطلاق: 12) كل هذا تفادياً من أن يقال أراضٍ وآرض (57)، أما السبب المعنوي فقيل: لأنه أريد الإخبارعن الذات لا العدد ولما احتيج إلى الإخبار عن العدد قيل: ( ... ومن الأرض مثلهن)، وقيل: لا مقارنة في السعة وقيل لقصد التحقير (58) وقيل: جمعت السماء؛ لأن كل واحدة مختصة بعالمٍ من الملائكة يخالف الآخر

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير