و احتلال الفتحة المرتبة الثالثة مرده إلى سبب صوتي، و هو تقيده بحرف الحلق إذ الغالب على (فعل: بفتح العين، و يفعل: بفتحها أيضا) أن يكون حلقي العين أو اللام، وهو أمر شعر به القدماء منذ أمد بعيد.
و لما كانت الحروف الحلقية تحتل حوالي ربع الحروف العربية، فالمنطق أن نجد ما كان من (فعل: بفتح العين، يفعل: بفتح العين)
أكثر تواترا، الا أن النتيجة عكسية، فهو لا يمثل إلا 10 في المائة بالنسبة إلى المجموع العام، بينما يمثل ما كان من (فعل: فتح العين، يفعل: ضم العين) نسبة 68،57 من المجموع العام. و يمثل ما كان (فعل: فتح العين، يفعل: كسر العين) نسبة 22،85 بالمائة، هذا إذا حذفنا العدد الذي تحتمل عين المضارع أكثر من وجه.
فإذا عددنا ذلك وجدنا اكبر نسبة هي التي تشترك فيها الضمة مع الفتحة و هي 7،85 بالمائة، بينما تمثل النسبة التي تشترك فيها الضمة مع الكسرة 5،71 بالمائة، بينما تمثل النسبة التي تشترك فيها الفتحة مع الكسرة 0،35 بالمائة، و إذا جمعنا النسب المشترك فيها بين الحركات إلى النسب المنفرد فيها، وجدنا دائما أن ما جاء على (فعل: يفتح العين، يفعل: بفتحها) يحتل المرتبة الثالثة، وهو ما يؤكد أقوال العلماء من أن (فعل: بالفتح، يفعل: بالفتح) ليس بناءا أصليا، و إنما هو من (فعل: بالفتح، يفعل: بالكسر) و قد فتح لسبب صوتي قصد التخفيف.
حتى و إن سلمنا جدلا بأنه منقول من (فعل: بالفتح، يفعل: بالكسر) و جمعنا نسب التواتر المنفرد فيها و المشترك فيها، وجدنا ان اكبر نسبة تعود دائما إلى ما كان من (فعل: بالفتح، يفعل: بالضم) و هو ما يؤيد تصنيف العلماء له في المرتبة الأولى، وقد أكدت الدراسات القرآنية ذلك.
أما حالات الاشتراكي الحركي، فإنها تمثل حالة طبيعية نظرا إلى الخلط الذي نجده في الأبواب، و إلى الحيرة التي انتابت العلماء، و هذا راجع إلى أنها سماعية لا تخضع لقاعدة عامة مطردة و مضبوطة، كما أن الناس جبلوا على استعمال المطرد دون غيره دون أن ننسى أن الاستعمال نفسه يسمح بحركتين في الوقت نفسه
و بخاصة الضمة و الكسرة، زيادة على أن النصوص التي جمعت كانت في غالبيتها غير مشكولة، و أخذت من قبائل متعددة.
و ما يجلب الانتباه أيضا الضعف الكبير في اشتراك الفتحة و الكسرة، فقد ورد مشتق واحد، وسبب صوتي واحد، وهو أن الفتحة مقيدة بحرف الحلق، مما يجعل وجود الكسرة معها أمرا شاذا.
...... نستنتج من كل هذا:
- إن المشتقات من (فعل: بالفتح، يفعل: بالضم) أكثر اطرادا، و السبب أن اللغة العربية تميل إلى إبدال حركة عين الماضي بحركة قريبة منها في المضارع، و لهذا نجد فعل (بالفتح) في الماضي يقابله (يفعل: بالضم) في المضارع بكثرة، لأن مخرج الضمة أقرب إلى مخرج الفتحة من الكسرة.
- انعدام المشتقات من (فعل: بضم العين) في السور يعود إلى أن حركته في المضارع لا تتغير لأنه لا يدل على قيام الفاعل بالفعل، و إنما يدل على الاتصاف، كما أن الضمة تجعل الفعل ثقيلا، ضعيف التصريف، و قد يفسر ذلك ميل بعض العرب إلى إسقاط ضمة العين، و نطقه (فعل: بفتح الفاء و سكون العين).
- الميل إلى تغيير الحركات في العربية يخلق الانسجام، و هي ظاهرة معروفة في الصرف العربي و لافتة للانتباه.
و هذا التغيير و التنوع الحركيان نجدهما حتى على مستوى الفعل الواحد أي على مستوى المادة الاشتقاقية، و كل ذلك لضرب من المعاني المختلفة، فلو أخذنا على سبيل المثال (الحاسِبِينَ) يكون بمعنى (العَادِين)، الذين يعدون أعمال الناس و تصرفاتهم إذا كانت من (حسب: بفتح السين، يحسب: يضم السين) و بمعنى (ظن) إذا كان من (حسب: بكسر السين، يحسب: بفتح السين، أو يحسب: بكسر السين)، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} النمل 44، و قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} النور 15، و قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} الهمزة 3، كذلك (بارئ) فإن قصد به الدلالة على الخلق كان من (بَرَأَ يَبْرُؤُ) أي (فَعَلَ يَفعُل)، وإن قصد به الشفاء من المرض و من غيره جاء من (بَرِئَ يَبْرَأ) أو (بَرَأ يَبْرَأ و يَبْرُؤ) [و علق قائلا في الهامش: غالبا ما
¥