وأما السعي المأمور به في الآية فهو الذهاب إليها على وجه الاهتمام بها والتفرغ لها عن الأعمال الشاغلة من بيع وغيره والإقبال بالقلب على السعي إليها.
وكذلك قوله في قصة فرعون لما قال له موسى (هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى)، فهذا اهتمام واجتهاد في حشر رعيته ومناداته فيهم.
وكذلك قوله (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) هو عمل بهمة واجتهاد ومنه سمي الساعي على الصدقة والساعي على الأرملة واليتيم.
ومنه قوله (إن سعيكم لشتى) وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب أو عقاب بخلاف المباحات المعتادة فإنها لم تدخل في هذا السعي قال تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى).
ومنه قوله تعالى (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن).
وقوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً).
الفائدة التاسعة:
الفرق بين (إنْ) و (إذا) في استعمال القرآن الحكيم:
قال ابن القيم: المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة (إن) لا يعلق عليها إلا محتمل الوجود والعدم، كقولك: إن تأتني أكرمك؛ ولا يعلق عليها محقق الوجود، فلا تقول: إن طلعت الشمس أتيتك، بل تقول: إذا طلعت الشمس أتيتك؛ و (إذا) يعلق عليها النوعان.
واستشكل هذا بعض الأصوليين فقال: قد وردت (إنْ) في القرآن في معلوم الوقوع قطعاً كقوله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة 23] وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه؛ وقوله (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) [البقرة 24]؛ ومعلوم قطعاً انتفاء فعلهم.
وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب وعلى منوالهم فكل ما كان في عادة العرب حسناً أنزل القرآن على ذلك الوجه أو قبيحاً لم ينزل في القرآن فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه بين الناس حسن تعليقه بإن من قبل الله ومن قبل غيره سواء كان معلوماً للمتكلم أو للسامع أم لا.
وكذلك يحسن من الواحد منا أن يقول: إن كان زيد في الدار فأكرمه مع علمه بأنه في الدار لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه.
فهذا هو الضابط لما تعلق على (إن) فاندفع الإشكال.
قلت: هذا السؤال لا يرد فإن الذي قاله القوم: إن الواقع ولا بد، لا يعلق بت (إنْ)، وأما ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع فهو الذي يعلق بها، وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع.
وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) [الشورى 48] كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى بـ (إذا) وأتى في إصابة السيئة بـ (إن) فإن ما يعفو الله تعالى عنه أكثر وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولا بد وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم وأنها مذوقة لهم والذوق هو أخص أنواع الملابسة وأشدها وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافة إليه فقال: (منا رحمة)، وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم؛ وكيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف (إن) دون الجملة الثانية.
وأسرار القرآن الكريم أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر.
وتأمل قوله تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) [الإسراء 67] كيف أتى بـ (إذا) ههنا لما كان مس الضر لهم في البحر محققاً بخلاف قوله (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط) [فصلت 49]، فإنه لم يقيد مس الشر هنا بل أطلقه؛ ولما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة إذا.
¥