وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوليَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].
ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به, فتخصيص تلك النصوص كلها، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به: لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين، الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين، يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه, ولا دليل على ذلك البتة.
بل أدلة الكتاب والسنة، دالة على وجوب تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا.
وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها، مع بعض الكلام، في المسألة الأولى. فهما شبه المسألة الواحدة.
المسألة الثالثة في التقليد في بيان معناه لغة واصطلاحا وأقسامه وبيان ما يصح منها وما لا يصح:
اعلم أن التقليد في اللغة: هو جعل القلادة في العنق.
وتقليد الولاة هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم, ومنه قول لقيط الأيادي:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
وأما التقليد في اصطلاح الفقهاء: فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله.
والمراد بالمذاهب هو ما يصح فيه الاجتهاد خاصة.
ولا يصح الاجتهاد البتة في شيء يخالف نصا من كتابه أو سنة ثابتة، سالما من المعارض؛ لأن الكتاب والسنة حجة على كل أحد كائنا من كان، لا تسوغ مخالفتهما البتة لأحد كائنا من كان فيجب التفطن، لأن المذهب الذي فيه التقليد يختص بالأمور الاجتهادية ولا يتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي سالم من المعارض.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس ما نصه:
والمذهب لغة الطريق ومكان الذهاب، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية,
فقوله: من الأحكام الاجتهادية تدل على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة من المعارض.
وذلك أمر لا خلاف فيه لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلا، مخالفا لنص من كتاب أو سنة أو إجماع، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف
وبما ذكرنا تعلم أنه لا اجتهاد أصلا ولا تقليد أصلا في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض الناس من المتأخرين أجاز التقليد، ولو كان فيه مخالفة نصوص الوحي، كما ذكرنا عن الصاوي وأضرابه.
وعليه أكثر المقلدين للمذاهب في هذا الزمان وأزمان قبله.
وبعض العلماء منع التقليد مطلقا، وممن ذهب إلى ذلك ابن خويز منداد من المالكية، والشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد.
والتحقيق: أن التقليد منه ما هو جائز، ومنه ما ليس بجائز، ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة.
وسنذكر كل الأقسام هنا إن شاء الله مع بيان الأدلة.
أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به، وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيه.
فقد كان العامي، يسأل من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن حكم النازلة تنزل به فيفتيه فيعمل بفتياه.
وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بفتياه.
قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود:
رجوعه لغيره في آخر ... يجوز للإجماع عند الأكثر
ما نصه: يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر، الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها.
¥