[الاعتبار ميزان الترجيحات]
ـ[عمر الريسوني]ــــــــ[29 - 03 - 09, 05:51 م]ـ
سبحانك اللهم لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم بك نستعين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
لا شك فيه أن الأحكام القطعية لا اجتهاد فيها كما قال أهل العلم فهي أركان واجبة على كل مسلم، وكتاب الله العزيز قطوفه دانية نستخلص منه ما علمناه ومنه ما لم نعلم، وهو الحق وميزان العدل والمقاصد الحميدة للوصول الى الحق المبين، وكما قال امام الحرمين: فأول شيء على الناظر أن يقصد التقرب الى الله سبحانه وطلب مرضاته في امتثال أمره سبحانه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، والدعوة الى الحق ودحض الباطل وعما يخير به، ويبالغ قدر طاقته في البيان والكشف عن تحقيق ذلك ويتقي الله سبحانه حتى لا يقصد بمناظرته المباهاة وطلب الجاه والتكسب والمماراة والهزء والرياء، ويحذر من عقاب الله سبحانه، ولا يكن قصده الظفر بالخصم والسرور بالغلبة والقهر.
ولم يكن القرآن حجة في البلاغة والفصاحة فحسب بل كان آية في المنهج الفكري والمنطق العقلي والحدث التاريخي العظيم والقياسات المقنعة، وهيمنته قوية جلية للعيان عملا ونزاهة وعدلا وحقا مبينا لا تمحل ولا مداراة في القصد ولا تلكؤ في الغايات، ولا محاباة حتى بين الرسل، مقاصده رشيدة هادية لا زيغ فيها.
يقول عز من قائل: (داعيا الى الله وسراجا منيرا) الآية، فلم يكن القرآن حجة على الكفار والمجاحدين والمنكرين، فلم تنفع معه فلسفة المتفلسفين ولا نظريات المناطقة، بل هو حجة بالغة على أنفسهم وسراج منير يهديهم الى بر الأمان، حتى أصبح المفكرون والعلماء باختلاف ألوانهم يتجهون الى الاسلام ويعتنقونه عن اقناع واقتناع، وكم من نظرية هدمت وكم من تأويلات خادعة انكسرت على صخرة الاسلام وصدعهم القرآن بحجته ودحض ونسخ أقوالهم بهادر الحق والبيان.
وجازى الله علماء الاسلام الذين بينوا وأفاضوا وسلكوا سبل الحق لا يلتفتون الى عرض الدنيا ولهم من الله خير الجزاء.
وقطوف القرآن دانية لمن كد واجتهد وأمعن النظر والاعتبار بفقه وتدبر، فأي عدالة باهرة هذه التي تجعلك تبحر وتغوص بقدر فطنتك ونباهتك وفهمك وعلمك ولم تحرمك من مقاصد جلية محكمة وأنت تعتبر وترجح ببصرك وبصيرتك متعلما من علم لاينضب أبدا، وهو نزل الى فهمك ومداركك برحمة الرحيم العليم لينبت في كيانك شجرة تمتد وتمتد الى بحر واسع من العلم وآفاق رحبة راقية.
فهو اذن بحر للعالم المتبحر، وبحر للعامي المبتدئ ولا يحرم أحدا من الغوص والابحار والنهل من درره.
فالذي يقرأ قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما) الآية.
ثم بعدها يقرأ قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الآية.
ماهذا؟
انه تعارض واضح بين الآيتين فالآية الأولى ورد فيها ذم الدنيا حتى أن المرء لينفر منها وينعزل عن كل ما يبدو من ظاهرها من نعيم وجمال وزخرف، وتدفع المرء الى ذم الدنيا ولعنتها وتفتح الطريق أمامه الى الزهد والابتعاد عن الدنيا وملذاتها ونعيمها الزائل.
أما الآية الثانية تدل على ما في الحياة الدنيا من نعيم وما فيها من أرزاق مختلفة ساقها الله الى عباده لينعموا ويعيشوا في هناء.
وما من تناقض ولا تعارض بل حبكة محكمة مكينة يجب تتبعها من أصولها ومجامعها وتبقى حتى التشريعات الوضعية هزيلة أمامها وأتحدى أيا كان ممن له دراسات في المجالات التشريعية أن يفهم هذه الأبعاد الموغلة في الحكمة والطهر والعدل والرحمة وبعد القصد.
وما يسعهم الا أن يسجدوا لرب العالمين.
وكما قلت فبينهما يقرأ قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الآية.
فهو سبحانه بفضله ورحمته وهب الله عباده عقلا فاحصا وحثهم على الحفاظ على سلامته من كل آفة فهم مكلفون ويجتهدوا بايمانهم، ويدعون الله تعالى في كل صلاة أن يهديهم الى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، والذي له فكر ثاقب فالله حثه على التدبر والاستنباط يعلم أن الحياة مليئة بالتناقض المريب والتعارض ويعلم أيضا أن المكتسب للنظر الثاقب يسعى الى الاعتبار والترجيح في الاختيار السليم وأن يؤدي ما عليه من حقوق وواجبات دون زيغ أو ضلال حتى لا يسقط في المعصية وهو لا يعلم، طالبا في ذلك المغفرة والتواب ورضا الله تعالى وعونه في نهج السبيل القويم والفوز بما عند الله سبحانه.
وقد جاءت الأحاديث النبوية دالة على الأخذ بالوسط والاعتدال في أمور الدنيا وأخذ بالمعادلة الحكيمة، وهي الاعتبار وهذا ما قصدته في عنوان مقالي الاعتبار ميزان الترجيحات عملا بقوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الآية، والمؤمن يعتبر بورعه وتقواه وبقلبه الوجل من الله سبحانه.
وهذا ينطبق أيضا على كثيير من الآيات كآيات الخوف والرجاء وغيرها في آفاق عدة كثيرة ونجد أمثالها في الحديث واجتهادات كبار الصحابة رضوا الله عليهم، فقلب المؤمن يجب أن يبقى معلقا بين الخوف والرجاء ويحكم ميزان الاعتبار مقتفيا أسرار التكليف والتشريع والبينة المحكمة من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة.
فالمؤمن يرجو رحمة الله تعالى ويخاف عقابه فلا يغلب الرجاء وينسى الخوف، ولا يغلب الخوف فينسى الرجاء وهو سبحانه الغفور الرحيم، فكم هو عظيم هذا المبنى المحكم، فالانسان اذا لازمه الخوف فهو في قنوط ويأس وعليه أن يبني ميزان هذا الترجيح حتى يعيش توازنا في حياته وتغلب السكينة على نفسيته اذا لازم هذا الاعتبار المحكم.
وهذا ينطبق أيضا على المفتي البالغ ذروة الدرجة فعليه بالوسط والأخذ بميزان الاعتبار فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم الى طرق الانحلال خصوصا هذا العصر الفاضح
بمغرياته الماجنة، والله الموفق والهادي الى الخير والصواب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين.
عمر الريسوني