تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما زلتُ طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب وتصانيف غيرهم فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهرٍ من الكلام ورائق من العبارة، ولم يداخل حقيقة الأصول على مايوافق معاني الفقه.

ورأيت بعضهم قد أوغل وحلَّل وداخل، غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريقَ المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قَبيل لهم فيه ولا دَبير، ولا نَقير ولا قِطمير، ومن تشبع بما لم يعطه فقد لبس ثوبي زور، وعادته السوء، وخبث النشوء، قطَّاعٌ لطريق الحق، مُعمٍ عن سبيل الرشد وإصابة الصواب.

فاستخرت الله تعالى عند ذلك وعمدت إلى مجموعٍ مختصَرٍ في أصول الفقه، أسلك فيه محض طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد ولا جنف ولا ميل، ولا أُرضِي بظاهرٍ من الكلام ومتكلَّفٍ من العبارة يُهوِّل على السامعين، ويَسبي قلوب الأغتام الجاهلين، لكن أقصد لباب اللب، وصفو الفطنة وزبدة الفهم.

وأنصُّ على المعتمد عليه في كل مسألة، وأذكر من شُبه المخالفين بما عولوا عليها، وأخص ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي في «تقويم الأدلة» بالإيراد، وأتكلم عليه بما تُزاحُ معه الشبهة ويَنحلُّ به الإشكال بعون الله تعالى.

وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع عنها لتكون عونا للناظر ومتعلقًا للمناظر.

وحين أصل إلى باب القياس وما يتشعب منه من وجوه الكلام ومأخذ الحجة وطريق الأسئلة والأجوبة ووجوه الاعتراض والأخذ بمخافق الخصوم وتوقيف المجادلين على سواء الصراط وطلب ملازمة حدود النظر وسلوك الجدد وترك الحيد ومجانبة الزيغ والأخذ بالتأثيرات والمبين المحكم من مخاييل الظنيات وما تعلق به الأصحاب بمحض الاشتباه في كثير من المسائل ووجه صحة ذلك وفساده؛ فسأشرح عند ذلك وأبسط زيادة بسط وشرحٍ على حسَب ما يسمح به الخاطر ويجود به الوقت والله المعين على ذلك والميسر له بمنه» اهـ.

* ثم قال رحمه الله في صدر باب الأوامر:

«القول بالوقف في الأوامر والنواهي باطلٌ.

وللأمر صيغة مفيدة بنفسها في كلام العرب من غير قرينة تنضم إليها، وكذلك النهى وهذا قول عامة أهل العلم.

* وذهب أبو الحسن الأشعري ومن تبعه إلى أنه لا صيغة للأمر والنهي.

وقالوا: لفظ (افعل) لا يفيد بنفسه شيئًا إلا بقرينة تنضم إليه ودليلٍ يتصل به.

وعندي: أن هذا قول لم يسبقهم إليه أحد من العلماء، وقد ذكر بعض أصحابنا شيئًا من ذلك عن ابنِ سريج ولا يصح.

وإذا قالوا: إن حقيقة الكلام معنى قائم في نفس المتكلم، والأمر والنهي كلام؛ فيكون قوله (افعل) و (لا تفعل) عبارة عن الأمر والنهي، ولا يكون حقيقة الأمر والنهي.

وهذا أيضا لا يعرفه الفقهاء، وإنما يعرفوا قوله (افعل) حقيقة في الأمر، وقوله (لا تفعل) حقيقة في النهي.

* أما الواقفية فتعلَّقوا بما ذهبوا إليه، وقالوا: إن صيغة قوله (افعل) تحتمل وجوهًا من المعنى، فإنه قد ورد بمعنى الإيجاب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.

وورد بمعنى التهديد بدليل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}.

وورد بمعنى التكوين قال الله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.

وورد بمعنى التعجيز قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}.

وورد بمعنى السؤال والدعاء وذلك في قول العبد: (رب اغفر لى وارحمني).

وورد بمعنى الإباحة وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}.

وورد بمعنى الندب في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً}.

وإذا احتملت هذه الصيغة هذه الوجوه لم يكن البعض بأولى من بعض، فوجب التوقف حتى يُعلم المراد بقرينة.

وأشبه هذا سائر الأسماء المشتركة، وهذا لأن ما احتمل وجوهًا شتى من المعنى لا يتعين أحد وجوهه إلا بدليل.

* وشبهة القوم هي: أن قوله (افعل) ليس يختص بمحمل، أخذًا من مسالك العقول.

فإن العقول لا مجال لها في مقتضيات العبارات، فلئن اختص بمحمل فإنما يختص من جهة النقل عن العرب أو من جهة الشرع.

قالوا: فإن ادعيتم نقلًا صريحًا من جهة أهل اللسان وهم العرب فهذه مباهتة، ولا يُعلم في هذا نقل صريح من العرب.

ولأن النقل ينقسم إلى المتواتر والآحاد؛ فإن ادعيتم النقل من جهة الآحاد فلا احتفال به لأنه لا يوجب العلم، والمطلوب في هذه المسألة هو العلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير