وقد عدوا الأمر من أقسامه كما عدوا الخبر من أقسامه، فلما كان ظاهر الخبر والاستخبار معمولًا به؛ فكذلك ظاهر الأمر والنهي.
وهذا لأن طريق العلم في الكل واحد، والنقل إلينا في الجميع كان بجهة واحدة لغرض واحد وهو العلم بكلام العرب، فلا يجوز أن يُعلم البعض ويُجهل البعض، هذا محال.
* وأما قولهم: إن البيان يقع ولا يختل مع التوقف الذي صرنا إليه.
قلنا: إذا وضعوا للأمر قوله (افعل) وللنهى قوله (لا تفعل) ولم يفد بنفسه شيئًا اختلَّ البيان.
يبينه: أن اللغة وضعت لحاجات الناس فكل ما احتاجوا إليه وضعوا له اسما يدل عليه، ومعلوم أن الأمر والنهي من أشد ما تقع إليه الحاجة، وهما داخلان في عامة المخاطبات التي تدور بين الناس، ونقْل ذلك أكثر من الخبر والاستخبار، ويستحيل أن يخلو كلام العرب مع سعته وكثرة وجوهه من صيغة الأمر والنهي ولفظة مفردة تدل عليهما بأنفسهما.
* وأما الذي قالوا: إن هذا اسم مشترك مثل سائر الأسماء المشتركة، ويقع البيان بها عند إرادة أحد وجوهها.
قلنا: نحن لا ننكر وجود الأسماء المشتركة في اللغة، ولكن ليس هذا من جملتها، لأنه لو كان قول القائل لغيره (افعل) حقيقة في أن يفعل، وحقيقة في التهديد الذي يقتضي أن لا يفعل، أو غير ذلك مما ذكروه؛ لكان اقتضاؤه لكل واحد من هذين على سواء، لا ترجُّح لأحدهما على الآخر.
ولو كان كذلك لما سبق إلى أفهامنا عند سماعها من دون قرينة أن المتكلم بها يطلب الفعل ويدعو إليه، كما أنه لَّما كان اسم اللون مشتركًا بين البياض والسواد لم يسبق عند هذه اللفظة من دون قرينة السواد دون البياض.
ومعلوم أنا إذا سمعنا قائلا يقول لغيره (افعل) وعلمنا تجرد هذا القول عن كل قرينة؛ فإن الأسبق إلى افهامنا أنه طالب للفعل.
كما أنا إذا سمعناه يقول: رأيت حمارًا؛ فإن الأسبق إلى أفهامنا الدابة المعروفة دون الأبله الذي يُشبَّه بها.
وقد بطل بهذا الكلام دعواهم أن الاسم المشترك، وإذا بطل الاشتراك لم يبق إلا ما بينّا من تعيين وجه واحد له وهو طلب الفعل.
* وأما الجواب عن كلامهم:
أما الأول: قولهم أنه قد ورد لكذا وورد لكذا: قلنا: هذه الصيغة موضوعة بنفسها لطلب الفعل وإنما حملنا على ما سواه في المواضع التي ذكروها بقرائن دلت عليها.
* وأما الأسماء المشتركة: فقدمنا الجواب عنها، وهذا لأن اللون والعين وأشباه ذلك لم توضع لشيء معيَّن. وأما قوله (افعل) وضع لمعنى معين، ألا ترى أنَّ من أمر عبده أن يصبغ الثوب بلون لم يستحق الذم بأي صبغ صبغه؟
ولو قال لعبده (اسقني) استحق الذم بتركه السقي، ولو كان قوله (اسقني) مشتركًا بين الفعل والترك اشتراك اللون بين السواد والبياض؛ لم يجز أن يستحق الذم والتوبيخ بترك السقي.
وهذا لأن أهل اللغة لم يضعوا اسم اللون لشيءٍ بعينه، وقد وضعوا قوله (افعل) لمعنى بعينه وهو طلب الفعل على ما سبق.
* وأما كلامهم الثاني: قلنا قد بينا بطريق النقل عن العرب الذين هم أهل اللسان.
وقولهم (إنه لم يقع لنا العلم بذلك): قلنا هذه مكابرة ومباهتة.
يبينه: أن العرب صاغوا قوله (افعل)، ولا شكَّ أنهم صاغوا هذه اللفظة لمعنى، مثل ما صاغوا سائر الألفاظ لمعان، وليس ذلك إلا لطلب الفعل الذي يعرفه كل أحد من معناه.
يدل عليه: أنه إذا وجب الوقف بالأمر وجب الوقف بالنهي أيضًا، ثم حينئذ يصير الأمر والنهي واحدًا وهذا محال.
* وعلى أن مِن مذهب الواقفية أن قوله (افعل) من الأسماء المشتركة، وإذا كان عندهم هكذا؛ فجميع ما قالوه من التقسيم في ثبوت الصيغة للأمر، وأنها تثبت بالعقل أو النقل، ودعواهم أن العلم لم يقع لنا بنقل ذلك من العرب: ينقلب عليهم فيما ادعوا أنه من الأسماء المشتركة، ولا مخرج لهم عن هذا بحال.
* وكل كلام أمكن قلبه على قائله في عين ما جعله حجة فإنه يبطل من أصله.
* والله الهادى إلى الصواب وهو المعين».
انتهى ما أردتُ نقله والحمد لله رب العالمين.
ـ[أبو فهر السلفي]ــــــــ[04 - 04 - 09, 02:38 م]ـ
الفاضل الأزهري السلفي ..
هذا كلام قديم لا جديد فيه وهو عين كلام المتكلمين ..
بل ونفس حجج من يُقسم الكلام لحقيقة ومجاز ..
بل هذا الكلام من أصرح الكلام في بناء صيغة الأمر على مبحث الحقيقة والمجاز ...
ولا تنفع سلفية السمعاني هنا بشيء ... فالكلام في الحقيقة والمجاز والأسماء المشتركة = بدعة اعتزالية لا يعرفها السلف ..
والأشعري رحمه الله كان أقرب للصواب من السمعاني؛ بركة أنه واحد ممن لم تدخل عليهم شبهة المجاز على الوجه الذي يُقرره المعتزلة ..
وليس السمعاني بأول سلفي يُقرر بدعة اعتزالية خاصة في أبواب أصول الفقه ..
وجل الذي يكتبه الناس في تلك الأبواب بعد الشافعي إنما هو من كلام المعتزلة والأشاعرة ...
فلا جرم تدخل عليهم الشبهة ويتكلمون كما تكلم السمعاني هاهنا بصيغة الأمر والحقيقة والأسماء المشتركة واللغة الموضوعة والعرب التي تضع الألفاظ وسبق الفهم المرجح للمعاني ..
وكل ذلك أجنبي عن العرب والسلف جميعاً ...
وفقنا الله وإياك للحق الصريح والصدق الصريح والنقطة التي لم يكثرها الجاهلون .. ووقانا الله وإياك باطلاً يتدثر بدثار الحق .. وبدعة تستخفي بالسنة ..
¥