تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما المذهب الثاني فهو الذي يُطْلق على هذه الظاهرة مصطلح " التضمين "، ويرى أن الفعل قد تضمّن معنى فعل آخر، وحرف الجر مَسُوق لإتمام معنى هذا الفعل. والتضمين لغة [10]: الإيداع. يقولون: ضمن الشيء الوعاء أي: جعله فيه، وأودعه إياه، وهو اصطلاحاً [11]: إيقاع لفظٍ موقع غيره ومعاملته معاملته، لتضمنه معناه، واشتماله عليه، أو هو إشراب فعلٍ أو مشتقٍ أو مصدرٍ معنى فعل آخر أو مشتق أو مصدر، ليجري مجراه في التعدي والمعنى، مع إرادة معنى المتضمن. والغرض منه إعطاء مجموع المعنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد. ويجري على التضمين بهذه الدلالة كثير من أفعال القرآن الكريم. ومن ذلك قوله تعالى: ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)) [12] فلو بحثنا في المعاجم العربية عن مادة (الرفث) لوجدنا: رفثت بالمرأة، وليس فيها: رفثت إلى المرأة. ولما كان الرفث في معنى الإفضاء، والفعل (أفضى) يتعدى بـ " إلى " جاءت " إلى" إذاناً بأنه في معناه [13]. يقول الدكتور: محمد نديم فاضل [14]: " فتضمين الرفث وهو مقدمات المباشرة أو المباشرة ذاتها معنى الإفضاء، والمتعدي بـ " إلى "، يمنح العلاقة بين الزوجين لمسة إنسانية تترفع بها عن عالم الحيوان، لمسة حانية، فيها من الرفق والنداوة والشفافية مثلما فيها من سمو المشاعر، وتحسر " إلى " هذه عن مسافر وجهها الجميل لتحكي ما اشتملت عليه المشاعر حين جمعت الرفث إلى الإفضاء في ما أحل الله للزوجين في شهر الصيام لتنأى بهما عن عرام الجسد، والحبيس في الرغبات المكبوتة في اللحم والدم بعد أن تستتبع خلفها معنى الستر، يتدثر به كل من الزوجين، وتتصل بأفق أرفع من الأرض وبغاية أسمى من اللذة، ترقُّ وترْقى إلى معارج عليا .... وحَسبُ التضمين أنه جعل في لفظ الرفث نداوة يخضرّ بها، ويرمي ظلاله، ولمسة رفافة تنأى عن عرام الجسد تبتغي الإعفاف والإنجاب، وتوقظ معنى الستر في هذا الحرف " إلى "، فجمع من صنوف البيان ما ذاع صيته على كل لسان.

وانتصر كثيرون لنظرية التضمين في الأفعال لا الحروف، ومنهم ابن العربي الاشبيلي [15]، يقول: " وكذلك عادة العربي أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا، فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضْعُ فعلٍ مكان فعل وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال ".

وممن قال بالتضمين في الأفعال ابن هشام [16]، مع أنه خرج كثيراً من الشواهد على طريقة تضمين الحروف، يقول: " قد يشربون لفظاً معنى لفظٍ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين نحو قوله تعالى: ((وما يفعلوا من خير فلن يكفروه)) [17] ضُمِّن معنى تُحرموه فعدّي إلى اثنين ".

وكذلك الحافظ السيوطي [18] إذ يقول: " إيقاع لفظ موقع غيره لتضمن معناه ".

والدكتور فاضل معنيّ ببيان صحة المذهب الثاني مشغول بهذا البيان شديد الحماسة له، يرفض رفضاً باتاً أيَّ دعوى أو حجة لتضمين الحروف، وكانت اطروحته في تعزيز ما اعتقده، وقد حشد أدلته للوفاء به، وكانت في جزئين: القسم النظري، ثم القسم التطبيقي. وقد أشار إلى خطر اللغة وأهميتها ضمن القضايا الإنسانية الكبرى، وخَلُصَ إلى أنها الكفيلة بإيضاح حقائق القرآن الكريم، والإفصاح عن خفايا التأويل، وإظهار دلائل الإعجاز، وشرح معالم الإيجاز، وعن طريق التضمين في الأفعال تنحلُّ كثيرٌ من العقد يقول [19]: " ترى الحرف مع الفعل فيوحشك الحرف، ويبقى الفعل قلقاً، فإذا حَملته على التضمين تمكّنَ الفعل وآنسك الحرف ".

والتضمين عند الباحث [20] مفتاح هذه اللغة الشريفة: وسرٌّ من أسرارها، يفْتَرُّ عن بديعةٍ، ويُفضي إلى لطيفة، وهو من طريف ما استوْدعتْه هذه اللغة، لأنه أذهب في الإيجاز، وأجمع لخصائص الصنعة، وفيه من الإيماء والتلويح ما ليس في المكاشفة والتصريح، وذلك أحلى وأعذب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير