تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والرسالة في الحقيقة مثالٌ حيّ على هذه الحماسة العالية التي كان يُبديها الباحث لموضوعه ورفض أي وجهة يُولّيها غيره وهو لا ينفك عن إيراد الأمثلة وأقوال أهل العلم الذين يذهبون مذهبه، وعن رميْ الوجهة الأخرى بالضعف والفتور.

وهو في سبيل إبطال التضمين في الحروف يلجأ إلى مناقشة مستفيضة لوظيفة كل قسمٍ من أقسام الكلمة الثلاثة: الإسم والفعل والحرف. يقول [21]: " المعنى الإفرادي للإسم والفعل هو في أنفسهما، والمعنى للحرف هو في غيره، فالباء مثلاً لا تدل على معنى حتى تضاف إلى الإسم الذي بعدها، لا أنه يُتحصّل منها منفردةً فلا بيئة للحروف خارج سياقها، والعربي في العصور الأولى إذا تجاوز في استعماله هذه الروابط فإن سبب عدوله من حرف إلى حرف هو السياق إذا، وهو الذي وضع الفعل في معنى معيّن وخصصه به، وعداه بحرف يناسبه، فإبدال حرف مكان حرف، أو قيام حرف مقام حرف، وتضمين الحروف كثير الإيهام ولا حقيقة تحته ".

ويرى الباحث أن النحاة حين يقولون: إن " إلى " بمعنى اللام والباء بمعنى "في "، و"عن" بمعنى " على " ثم يردد المفسرون أو أكثرهم، لم يسألوا عن سبب تناوب هذه الحروف، ولم يتعرضوا للعلّة التي من أجلها جرى التعاور فليس التناوب في الحروف إلا أسلوباً من الهروب في مواجهة المشكلة، وإن الفكر باعتماده على الهوية المجردة للحروف أو الأداة أو اللفظ دون ربطه بالنص وبواقعٌ له زمان ومكان، وبظروفٍ اجتماعية وتاريخيةٍ ونفسيةٍ معنيةٍ ينتهي إلى تأملات مجردة وهذا من مخاطر العقلية المثالية [22].

ويستعين الباحث بطائفة واسعة من الآيات الكريمة التي تدعمه في إجلاء نظريته، كما يستعين بهذه الأساليب الأدبية العالية التي أوتِيها في التعبير الفني.

وفي القسم النظري من الرسالة يشير الباحث إلى الغرض من التضمين وفائدته، يقول [23]: " فالغرض من التضمين إفراغ اللفظين إفراغاً، حتى كأن أحدهما سبك في الآخر، فالمعنى لا يأتيك مصرحاً بذكره، مكشوفاً عن وجهه، بل مدلولاً عليه بغيره. وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين، فالكلمتان مقصودتان معاً قصداً وتَبَعاً.

وأشار الباحث إلى مسألة: هل التضمين سماعيٌ أو قياسي؟ ويستعرض أقوال العلماء الذين ذهبوا إلى أنه سماعي [24]، وذكر آخرون أنه قياسي. وقد رجح الباحث هذا المذهب، وأجاز استعماله للعارفين بدقائق العربية وأسراراها، والبلغاء يستعملونه في كلامهم بلا حرج فكيف نسد بابه في اللغة، وهو يرجع إلى أصول ثابتة فيها.

ويتحدث الباحث عن أوجه استعمال التضمين فهو يكون في الأفعال، ومن أمثلته [25] قوله تعالى: ((قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره)) [26] فالفعل (يخالفون) يتعدى بنفسه وبـ إلى، وحين عدي " بعن" تضمن معنى صدَّ أو أعرض. وتعبير التسلل يتمثل فيه الجبن عن المواجهة، وحقارة الشعور المرافق له في النفوس. والفعل (خالف) بمعنى (حاد) لتصوير الحالة النفسية للنماذج البشرية حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحذير الرهيب من الله أن تصيبهم فتنة في الدين أو الدنيا، التحذير لا لمن خالف وإنما لمن حاد عنها، والحيدان أدنى درجات المخالفة عن المنهج الرباني. ولم جاء التعبير بالمخالفة؟ الحيدان قد يكون سهواً وغفلة، وأما المخالفة فإنها تصدر عن تصميم وقصد وعدم مبالاةٍ بالأوامر شأن المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يكمن الخطر، تلك الآداب التي تنتظم بين أفراد الجماعة يستقيم أمرها بوقار قائدها وهيبته، وباستقرار هذه المشاعر في أعماق ضميرها تصبح قانوناً نافذاً في حياتها، وإلا أصابتهم فتنة يختلط فيها الحق بالباطل.

ومن أمثلة التضمين في الفعل قوله تعالى [27]: ((وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)). الفعل (خلا) يتعدى بالباء تقول: خلا به أي: انفرد. ولعل تضمين (خلا) [28] معنى ارتاح إليه وسكن أقرب إلى السياق، فخلوُّهم إلى بعض يجدون فيه السكينة والطمأنينة والارتياح، وفي خلواتهم هذه ما شئت من وسائل الكيد والفتنة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير