تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

السياق لم يغفل الكاتب الدراسات الاستشراقية وسبب اهتمامهم بعلوم القرآن، التي تقوم على منهجين: المنهج الوضعي الذي كان قاصراً في تدبر المفاهيم المحورية المؤسسة للرسالة المحمدية مثل الوحي والنبوة والقرآن، ثم المنهج الفيلولوجي الذي كلف أصحابه بتتبع تاريخ المصحف والمراحل الكبرى للوحي، ووضع ترجمات للقرآن الكريم والخوض في بعض مسائل علوم القرآن ومنها أسباب النزول.

عمل الجمل على دراسة تاريخ علم أسباب النزول والكشف عن أهم عوامل تكون هذا العلم وتشكله وهي عوامل ثقافية (دور القصاص في الاهتمام بأسباب نزول بعض الآيات المتصلة بالسيرة النبوية والمغازي) ومعرفية (معرفة تاريخ نزول أي القرآن والخوص في الأحكام الناسخة والمنسوخة) وايديولوجية (تنازع المذاهب في تأويل النص الديني تعويلاً على أسباب النزول).

بعد دراسة بنية أخبار أسباب النزول وتبين طرق صناعتها ينتهي الجمل أن القسم الأكبر من مادة أسباب النزول مختلفة، ومشكوك في صحتها، وعدم ملاءمتها لمنطوق نص المصحف ولمقاصد الرسالة المحمدية، وهذا الاختلاق كانت وراءه دواع سياسية، ومذهبية، وبيئية، حتى قد تكون لعقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من أخبار سيرة الرسول ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين. ابن عباس مثلاً الذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات لا يعتبر شاهداً حقيقياً على مرحلة الوحي إذ لم تكن سنه – وهو في سن الثانية عشرة عند وفاة الرسول – تسمح له بأن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثوقاً به على أحداث فترة الوحي، ولكن من يجرؤ في ظل الدولة العباسية على تكذيب «جد الخلفاء» وقتها أو التشكيك في سلامة رأيه، كما أن جل التابعين رواة الأخبار من الموالي، ومن المعروف أن مناهضة بني أمية للموالي سيدفع بالعديد منهم إلى الرغبة في التفوق على العرب في الميادين التي كانوا يترفعون عنها، ومنها مجال العلوم عموماً كعلوم الدين واللغة وما شاكلها.

ولعل المفسرين استغلوا أسباب النزول لاستعادة طور متميز من تاريخ الإسلام، هو طور النبوة، فأعادوا بناء علاقة الرسول بالوحي، بخاصة لحظة تقبله التنزيل، ولقد أسسوا تصوراً للوحي لا يعكس إخباراً بما حصل في الواقع التاريخي وقتئذ من علاقة الرسول بالمفارق بقدر ما يترجم عن تمثلهم الخاص للوحي، وقاموا بتبرير القراءات الموافقة للمصحف العثماني في غالب الأحيان، والمخالفة له في بعض الأوقات، ووظفت تلك الأخبار لإقامة الدليل على صحة مقالاتهم في النسخ، وحسبما يرى المؤلف فإن ذلك التوظيف لم يقم على معايير مقنعة في تصور العلاقة بين أسباب النزول والنسخ، وان جل العلماء قاموا بهذا التطويع المقصود على رغم الشبهات العالقة به، من جهة الرواية وطرقها ومرجعيتها التاريخية ومدى صلتها بمقاصد النص الديني ورهانات الرسالة المحمدية.

الواقع أنه كثيراً ما يجد الباحثون المعاصرون حرجاً في التصدي بروح نقدية لجوانب من منظومة العلوم الإسلامية الأساسية التقليدية، ذلك أن عناصرها متضافرة، يعضد بعضها بعضاً، خشية أن تنهار المنظومة برمتها فيما إذا تبين الخلل في فرع من فروعها، ولهذا فهم مترددون بين الإثبات والنفي، بين الجرأة والخوف، بين مقتضيات المعرفة الحديثة ومقتضيات الوفاء لجهود القدماء، وتحتل دراسة المحاور العلمية التي ما فتئت تشغل المفسرين منذ استقام التفسير القرآني فناً ذا ملامح محددة، ومكانة متميزة، وقد تبلورت هذه المحاور بصفة تدريجية وتنوعت بتنوع اهتمامات المفسرين، كما تدل على ذلك مقدمات كتبهم، إلى أن جمعت في فترة متأخرة في «برهان» الزركشي و «إتقان» السيوطي، وقد عمل كلاهما على تصنيفها ضمن ما أصبح معروفاً بـ «علوم القرآن». وكانت وظيفتها الرئيسة توفير المعطيات التي تعين المفسر على فهم النص فهماً صحيحاً بحسب معايير المدرسة الفكرية والمذهبية التي ينتمي إليها.

ما تخلص إليه هذه الدراسة فإن جل مادة أسباب النزول لا تصلح لأن تكون معرفة إسلامية موثوقاً بها ومؤهلة بحق للإجابة عما طرحه العلماء المسلمون من أسئلة في مباحث السيرة والمغازي والحديث والوحي والفقه والقراءات والتفسير ... فهذه الأخبار ليست سوى تمثل القدامى لمرحلة الوحي، وهو تمثل متأثر بأحوالهم التاريخية وناطق بهمومهم الثقافية عموماً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير