ولا غرابة في ذلك حيث "أنّ خبر المتخيّل – و هو يسافر في الزّمان- معرّض للتغيّر في محتواه إن قليلا أو كثيرا وهو تغيّر راجع إلى طبيعة خبر المتخيّل ذاته إذ الأحداث فيه عجيبة وغريبة وليست من جنس الوقائع التّاريخيّة الّتي تعوّد عليها النّاس في شؤون اجتماعهم وأحوال معاشهم». كما لا يخفى أنّ تلك المرويّات العجيبة الغريبة المؤثّثة بكلّ ما هو من جنس الخوارق واللامرئيّات هو من نسج "تصوّرات منتجيها" ومن صوغ
"تمثّلاتهم" الّتي تعكس"آفاقهم المعرفيّة في فترة تاريخيّة معيّنة". و لكن، وإن صحّ هذا الرأي، ما الّذي يمكن قوله عندما يتواصل هذا الاعتقاد في مرويّات عجيبة إلى يومنا هذا رغم انفتاح الآفاق المعرفيّة ورغم ما عرفه العقل الإسلاميّ من تقدّم و تطوّر؟
كما لاحظ بسّام الجمل أنّ أكثر الروايات غرابة ظهرت "دفعة واحدة بدءا من القرن السادس الهجري (مع فخر الدين الرازي) ".
ولذلك صحّ القول بأنّ "المتخيّل الدّينيّ يعظم شأنه و يكتسح مجالات عديدة من الثقافة السائدة في فترات الانحطاط والوهن الحضاري". كما خلُص صاحب كتاب" ليلة القدر في المتخيّل الإسلاميّ إلى "شبه قاعدة مفادها أنّه كلّما نزعت المعرفة الدّينيّة في عصر من العصور إلى التقليد والاجترار وكلّما طغى الشعور لدى المؤمنين باقتراب الساعة وبنهاية العالم وبانسداد الآفاق كان للمتخيّل الدّينيّ ذاك العصر سوق نافقة ورواج واسع".
لذلك لم يكن غريبا على "المعرفة الدّينيّة العالمة" في القرن السادس الهجريّ و ما بعده أن تحتفي "بكلّ الأخبار العجيبة والروايات الغريبة كأحسن ما يكون الاحتفاء".
وبذلك تلبّست الذهنيّة الإسلاميّة بالمتخيّل أيّما تلبّس. ووجّه المتخيّل الثقافة الدّينيّة نحو مزيد من الاحتفاء بالعجيب والغريب ليتراجع التفكير "العقلانيّ" أمام ثقافة "التقليد والاجترار" وإنتاج قصص خياليّة متخيّلة متلبّسة بالدين والاعتقاد والمقدّس.
وكأنّ الدّينيّ لا يكون إلاّ متخيّلا. والطريف أن يُحكم على كلّ محاولة للتفكير بالتكفير.
و قد حصر بسّام الجمل مرجعيّات المتخيّل الإسلاميّ المتعلّقة بليلة القدر بمصدرين اثنين أساسيين:
" – مصدر من داخل الثقافة الإسلاميّة.
- و مصدر من خارج الثقافة الإسلاميّة (المرجع السومريّ، المرجع التوراتيّ، المرجع المانويّ) ".
أمّا في ما يتعلّق بالمرجع الإسلاميّ فمن الملاحظ "أنّ العلماء المسلمين استغلّوا عددا من الإشارات القرآنيّة وألّفوا بينها لإنتاج متخيّل إسلاميّ له ملامحه المميّزة. فوسّعوا من تلك الإشارات باختلاق مرويّات لا مرجع لها في القرآن".
و لكلّ ذلك انتهى بسّام الجمل إلى صياغة قاعدة مفادها "كلّما نزع نصّ المصحف إلى التعميم والرمز والإيحاء وفّر لقرّائه ولمؤوّليه إمكانات عريضة ومتجدّدة لنسج ما عنّ لهم أن ينسجوا حوله من أخبار وقصص ينتمي قطاع منها إلى المتخيّل الإسلاميّ ".
ولذا حُقّ القول بأنّ الثقافة الإسلاميّة "ثقافة قادرة على إنتاج متخيّلها الخاصّ وهي أيضا ثقافة منفتحة على ضروب المتخيّل الوافدة عليها بحكم طبيعة المجتمع الإسلاميّ المتكوّن من أجناس عديدة دخلت الإسلام وفي رصيدها قيم ثقافاتها الّتي تربّت عليها فحصل تلاقح ثقافيّ منذ وقت مبكّر من تاريخ الإسلام".
وقد حصر بسّام الجمل تقنيات إنتاج المتخيّل الإسلاميّ خاصّة (من خلال أخبار ليلة القدر)
والمتخيّل الدّينيّ عامّة في أربع تقنيات أساسيّة وهي:الرؤيا والتركيب والتوليد والإضافة والتضخيم والقلب. كما لاحظ أنّ هذه التقنيات لا تتعلّق فقط بالمتخيّل الدّينيّ بل تشمل كذلك المتخيّل الأدبيّ وغيره من أنواع المتخيّل.
وبذلك تميز هذه التقنيات إنتاج المتخيّل الإنسانيّ عامّة.
ولا شكّ أنّ ليلة القدر تكتسب أهميّة كبرى في المتخيّل الإسلاميّ لاسيّما أنّه يعتقد اعتقادا جازما بـ"أنّ القرآن برمّته أنزل في ليلة القدر فضلا عن تصديقهم بقول منسوب إلى الرسول’أفضل الليالي ليلة القدر’".
وقد حاول بسّام الجمل في الفصل الثالث: رموز المتخيّل من كتابه المذكور آنفا أن يتبيّن ملامح الذهنيّة الإسلاميّة ليخلص إلى أنّ هذه الذهنيّة "تعقد مطابقة تامّة بين الرمز والمرموز إليه». و قد فصّل القول في ذلك مبرزا أنّه "إذا تأوّل المفسّرون سورة القدر في اتّجاه القول بنزول الملائكة وجبريل ومعهم ألوية أربعة فيعني ذلك عندهم أنّ النّزول فعل حاصل في التّاريخ لا مراء فيه، وحين يتأوّلون الرّوح المذكور في الآية على كونه ملكا له سبعون ألف وجه، فيعني ذلك أيضا وجود هذا الكائن ’الخرافي’ في الواقع التّاريخيّ الموضوعيّ، ومن ثمّ فإنّ كلّ ما رشحت به أخبار ليلة القدر من أفعال وأقوال مشدود عندهم إلى الحقيقة لا إلى المجاز".
وغنيّ عن الذكر أنّ الذهنيّة الإسلاميّة تمزج بين العقل والمتخيّل وتؤلّف بين العالم المرئيّ والعالم اللامرئيّ المفارق وبين التاريخيّ والأسطوريّ وبين المعقول والخرافيّ حتّى أضحى التفكير الإسلاميّ تفكيرا يتحكّم في مساراته المتخيّل كأشدّ ما يكون التّحكّم.
ومن الجليّ أنّ المسلم يعتقد اعتقادا جازما في وجود ليلة القدر "غير أنّنا (والقول لبسّام الجمل) نرى أنّ ليلة القدر ليس لها وجود إلاّ في الذهنيّة الإسلاميّة وبعبارة أخرى إن كان لليلة القدر من حقيقة فهي بالتأكيد حقيقة نفسيّة جمعيّة في المتخيّل الإسلاميّ".
ولكلّ ذلك يحقّ لنا القول "بأنّ المسلمين – في تعلّقهم بليلة القدر- يعبّرون عن رغبة دفينة في الإنسان عامّة وهي إرادة التّخلّص من المنزلة الوجوديّة المعطاة عبر بناء عالم الآلهة والصعود إليه والاتّصال به من ناحية ومحاولاته المتعدّدة في كلّ عصر ومصر ودين لقهر حقيقة الموت من ناحية أخرى».
والجدير بالتنبيه إليه ما يكتسبه مبحث المتخيّل الإسلاميّ خاصّة والمتخيّل الدّينيّ عامّة من أهميّة في فهم اعتقادات الإنسان الدّينيّة وفي مقاربة تمثّلاته الجمعيّة وتصوّراته عن الكون والإنسان والدّين وفي ملامسة عمق لاوعيه الجمعيّ.
نقلا عن الأوان