تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الله: "وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ"، فأَحْسَنوا الكيل". إلا أننى لا أستطيع أن أفهم كيف تكون الآيات الأخيرة قد نزلت فى أهل المدينة، والسورة كلها، كما يقول الطبرى نفسه فى بداية تفسيره لها، سورة مكية! ثم إن أهل المدينة كانوا مشهورين بدماثة الطبع ولم تُعْرَف عنهم شكاسة فى الخلق والمعاملات التجارية كالذى كان مشهورا عن مكة وأهلها فى الجاهلية، علاوة على أن القرآن إنما كرّر النهى عن الغَبْن فى المكاييل والموازين فى المرحلة المكية، بخلافه فى المرحلة المدنية، التى لم ينزل فيها شىء فى ذلك. ولا ينبغى أن نغفل عن أن المكيين كانوا، فى المقام الأول، تجارًا لا زُرّاعًا كاليثربيين. بل إن الحديث عن شيوع الغش فى المعاملات التجارية فى بعض الأمم القديمة وتلاعبها فى الكيل والميزان، وهى أمة شُعَيْب عليه السلام، إنما كان فى "الأعراف" و"هود" و"الشعراء"، وهى مما نزل فى مكة لا المدينة. أفترى القرآن إذن كان يستبق الحوادث ويهاجم اليثربيين قبل الميعاد؟ الذى أراه هو أن المقصودين بالكلام عن الكيل والميزان إنما هم المكيون قبل غيرهم، وإن كنت لا أستبعد سواهم من العرب من هذا الانحراف الخلقى. وبالمناسبة فإن الواحدى والسيوطى مثلا فى كتابيهما عن "أسباب النزول" يقولان نفس ما قاله الطبرى.

أما ابن عاشور فى "تفسير التحرير والتنوير" فيورد اختلاف العلماء فى مكية السورة أو مدنيتها، لينتهى إلى أنها مما نزل بين مكة والمدينة. ثم أضاف قائلا: "وعن القُرَظِيّ: كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت بياعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فَشَتْ فيهم من زمن الشرك فلم يتفطَّن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سَنُّوا التطفيف. وما أَنْسَبَ هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرًا عامًّا، فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات". ولكنى، رغم هذا، ما زلت أرى أن "المطففين" سورة مكية لأسلوبها وموضوعاتها اللذين يشبهان أسلوب الوحى المكى وموضوعاته، وأقصى ما يمكن أن أفكر فيه هو أن يكون الرسول قد قرأها على أهل يثرب مُهَاجَرَه إليهم، فقد قلت إننى لا أستبعد أن يكون من العرب من كان يطفِّف فى الكيل والميزان من غير أهل مكة، إلا أن المكيين، فى نظرى، هم المقصودون أوّلاً وفى الأساس بهذه الآيات. أَيًّا ما يكن الأمر، وهذا هو المهم فى الموضوع، فقد كان الجاهليون يتلاعبون فى مكاييلهم وموازينهم بما يأباه الخلق الشريف والذكاء التجارى الحصيف كما يصنع كثير من التجار فى المجتمعات المتخلفة مما لا نجده فى نظيراتها المتقدمة رغم أنها ربما لا تدين بدين سماوى، لكنه الحس التجارى السليم والقانون اليقظ الحريص على سلاسة الحياة وراحة البال حتى ولو لم يكن الحفاظ على القيم الخلقية فى حد ذاتها هو المراد!

وكان فى أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان، فكان الحَيّ إذا كان فيهم عُدّة ومَنَعة، فقَتَل عبدُ قومٍ آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نَقْتُل به إلا حُرًّا تعزُّزًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت امرأةُ قومٍ آخرين امرأةً لهم، قالوا: لا نَقْتُل بها إلا رجلاً. فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُ نْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة/ 178).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير