تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن القصة القرآنية تقول إن الأخ الغنى لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلا، بل كل ما فى الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه. فهذا كل ما هنالك، وإذن فلو أن هذين الخصمين ملاكان أرسلهما الله إلى داود، كما جاء فى بعض كتب التفاسير، لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التى ارتكبها، فأى جدوى من هذا التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل وتمت الجريمة ولم يعد من سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى عز وجل، الذى كان قادرا على أن ينبه نبيه فى هذه الحالة تنبيها مباشرا يمنع الجريمة قبل وقوعها بدلا من تركه يقترفها ثم عتابه له بعد فوات الأوان؟ ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو، فما الفرق بينهم إذن وبين عتاة المجرمين؟ إن الإنسان العادىّ لا ينحط إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه وصنعهم على عينه وجعلهم من الأخيار أُولِى الأيدى والأبصار وزودهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلا عن ذلك فالقرآن نفسه يقول عن داود عليه السلام فى سورة "ص" ذاتها: "وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْنَ مآب"، فكيف يمدحه الله سبحانه هذا المديح العظيم ويأتى بعضنا فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جريا وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبيا ولا رسولا إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان فى كتبهم؟ أنكذِّب القرآن ونصدق العهد القديم؟ كذلك فالآية التى تلى قصة الخصمين تحضّه عليه السلام أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبع الهوى، وهو ما يرجِّح أن تكون القصة متعلقة بالتسرع فى الحكم لأحد المتخاصمين قبل الاستماع إلى الطرف الآخر، لا بمسألة أوريا وزوجته. ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلا من الحقيقة، ولا إخال، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع مثلا بجمال زوجة قائده فحدثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟

أما يونس فأىُّ خطإٍ ارتكبه حين ضاق صدره بعد إذ رأى من قومه لَدَدًا فى الكفر وتماديا فى العناد والإنكار فتركهم ومضى على وجهه؟ إن هذه ليست سُبَّة أخلاقية، لا ولا هى تهاون فى تأدية الواجب. وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضا بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.

ونأتى إلى وَكْزَة موسى، التى ينبغى ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وَكْزَة أراد بها عليه السلام أن يدفع العدوان أو ما ظنه عدوانا على ابن جلدته فى بلدٍ كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بنى إسرائليل فيه لا لشىء إلا لضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم آنئذ، لكن كانت للأقدار مشيئة أخرى، إذ مات المصرى بسببها. وأغلب الظن أنها كانت "القشة التى قصمت ظهر البعير". أى أن أسباب الموت كانت مهيَّأة لطَىّ صفحة ذلك الرجل من الوجود، كأن يكون مصابا بأزمة قلبية مثلا أو تكون الوكزة قد أفقدته توازنه فسقط دماغه على أرض حجرية ... إلخ، فجاء وَكْز موسى فى ذلك الوقت مصادفة واتفاقا ليكون هو العامل الظاهرى الذى أودى بحياته. ولنلاحظ أن موسى قد أنَّبه ضميره على الفور ولذَّعه تلذيعا، فأخذ يستغفر ربه ويبتهل إليه نادما أشد الندم رغم أنها ليست سقطة أخلاقية كما قلنا.

ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه، فى حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله فى بعض أمور دينه أثناء انشغاله بمحاولة إقناع بعض المشركين فى مكة لهدايتهم إلى الإسلام، يقول إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أى إنسان آخر فى مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك فى حق الأنبياء ذنبا عظيما يستوجب العتاب. ثم يمضى قائلا إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وهذا هو الذى أتفق فيه مع محمد أسد، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى رضى الله عنهم عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقربين".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير