تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهذا عن الجن والملائكة ونظرة محمد أسد إليهم. وعلى أساس من التأويل أيضا نراه يتناول الجَنّة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب، فهو يؤكد أن أوصاف الجنة من أكل وشرب ولبس، وكذلك كلّ ما يتعلق باليوم الآخر فى القرآن، إنما هى تعبيرات رمزية لتقريب هذه الأمور، ولا يصح فهمها على ظاهرها بأية حال [59]: فـ"اتكاء أهل الجنة على فُرُشٍٍ بطائنها من إستبرق" كما جاء فى الآية 54 من سورة "الرحمن" معناه عنده الراحة التامة والسلام الشامل لا أكثر ولا أقل [60]، "والرحيق المختوم" المذكور فى الآية 25 من سورة "المطففين" مجرد إشارة رمزية لمشاعر البهجة الأخروية المركزة التى لا تخطر على قلب بشر [61]، و"ضحك الذين آمنوا فى الجَنّة من الكفار" فى نفس السورة هو مجرد معنى مجازى يشير إلى سعادتهم بحظهم الطيب لأن مثل ذلك الضحك مما لا يليق بالمؤمنين [62]، و"أنكال" سورة "المدثر" التى اعدها الله يوم القيامة لأهل الجحيم ليست سوى رمز على بقاء النفس فى العالم الآخر مقيدة بمتعها وشهواتها الجسدية، ومن ثَمَّ لا تستطيع بلوغ عالم الروح والصفاء [63]، و"ضَرِيع" سورة "الغاشية"، وهو فيها طعام أهل النار، إنما هو مشتق من "الضراعة"، وليس إلا تعبيرا مجازيا [64] ... وهكذا.

ومن الواضح أنه ينظر إلى متع الجسد نظرة تقززية وأن الحياة الآخرة لديه إنما هى حياة روحية محضة. وهذه نظرة شائعة بين قطاع من المسلمين، ولا أعرف لماذا، ولا على أى أساس من آيات القرآن أو أحاديث النبى يقولون بذلك، ولا لأى سبب يحتقرون الجسد ويعلون من شأن الروح وحدها. إن كلا من الجسد والروح هو صنعة الله، فلماذا نحتقر ذلك ونفضل هذه عليه؟ ألأن الجسد يمرض ويشيخ ويتغضن ويفرز البصاق والعرق والعماص والبلغم والبول والبراز والقيح والصديد وتتغير رائحته مع مرور الوقت؟ سبحان الله! وهل الروح بمنأى عن العيوب والثلمات؟ ألا يشعر الإنسان بالملل والضيق واليأس والشح والحقد والغرور والضعة والأنانية والشك والسهو والنسيان والغباء واشتهاء المحرمات؟ أليست هذه ألوانا من النقص تعترى الروح البشرية، وغيرها كثير؟ إذن فلم تلك النظرة الدونية للجسد؟ ثم من قال إن أجساد أهل الجنة ستكون كأجسادنا هنا على الأرض؟ إن آيات القرآن وأقوال الرسول واضحة الدلالة على أنها ستكون خالية من كل ما يسبب لنا الألم والضيق والتقزز فى الدنيا، فما المشكلة إذن؟ ثم إن حواسنا الجسدية هى نوافذنا على العالم ووسيلتنا إلى الاتصال به، فلم الزعم بأن ذلك الوضع سيتغير فى الآخرة ويُلْغَى الجسد وتلك النوافذ التى تصلنا بالعالم إذا كان القرآن نفسه وحديث الرسول لا يقولان بهذا بل بعكسه؟ هل هناك ما يدل على أن الكلام عن الجنة والنار هو كلام مجازى؟ فأين هذا الدليل؟ الواقع أنه لا يصار إلى القول بالمجاز إلا إذا كان السياق يوجب هذا أو كان من المستحيل وقوع الأمر على ظاهره أو ترتَّب على الفهم الظاهرى للكلام تناقض لا يمكن إزالته ... إلخ، ولا شىء من ذلك، والحمد لله، فى النصوص القرآنية والحديثية الخاصة بذلك الموضوع.

قد يقال: وكيف سنُبْعَث بأجسادنا هذه، وقد كان لكل واحد فى دنياه أجساد بعدد اللُّحَيْظات التى عاشها؟ فبأى جسد من هؤلاء سنُبْعَث؟ وقد أثير سؤال قريب من هذا فى إحدى محاضرات الفلسفة الإسلامية التى كان يعطيناها د. حسن حنفى فى أواخر الستينات من القرن الماضى بآداب القاهرة، وكانت إثارته على سبيل التحدى من جانب أحد الملحدين. وقال الأستاذ الدكتور إن جسد كل منا يعتريه التحلل بعد موته ويصير ترابا يتغذى عليه النبات الذى يأكله إنسان آخر يستحيل جسده بدوره بعد موته ترابا يأكله النبات ... وهكذا دواليك، فكيف ستنماز أجساد البشر اللامتناهية يوم القيامة، وكلها فى الأصل راجعة إلى عدد محدودد نسبيا من الأجساد؟ لكنْ نَسِىَ أصحاب هذا الاعتراض أن كل شىء حاضر بجميع أوضاعه وتطوراته فى إدراك الله يبرزه لنا وقتما يشاء. لقد استطاع البشر تسجيل الأشياء والأشخاص بالصوت والصورة، أما الله فكل شىء عنده مخزون بكل أبعاده وعناصره وطبائعه وخصائصه لا مسجَّل فقط صوتا وصورة، ذلك أن علمه سبحانه مطلق بلا حدود، وهو جلَّ شأنه فوق الزمان والمكان، وكل شىء حاضر فى علمه حضورا أبديا مهما تناءى به الزمان والمكان. أما بعد الحساب فكل شىء سوف يتغير، وتجرى الأمور على أوضاع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير