ـ[ابن الشجري]ــــــــ[31 Mar 2009, 10:21 م]ـ
.
مضى زمن حسبت أني لقيت فيه الأسد فحدثني حديثه، فكم أنست بأخباره وأخبار صاحبه زيد، وإيقاع حبات البن على النار في هدأة الليل وسكون الصحراء، وكم تمنى متمن أنه ثالثهما، لينعم معهما بحديث الصحراء وصدقها، ويرى فيها الطبيعة في صفائها ونبلها، قبل أن تلوثها يد الإنسان، أو تصيبها جراحات الزمان، أسفار وأسفار في ليال تلتها أيام، من النمسا إلى فينا إلى ألمانيا إلى مصر، ففلسطين فسوريا والأردن والعراق ثم جزيرة العرب، بفيافيها الواسعة، وصحرائها الشاسعة، مرورا بالنفوذ خلوصا إلى حائل وبلاد نجد فالحرمين، ثم بلاد فارس والهند فباكستان، حتى وصل إلى أفق تلاشت معه حدود الزمان والمكان ...
لقد قرأت الكثير من كتب التراجم والسير الذاتية، فما اصطحبني أحدهم كصاحب الطريق إلى مكة، في سمو مقصده وضخامة معانيه، آسر بديع في نظمه وعرضه، ووصفه للمشاهد والأحداث، بحق إنه من الكتب القلائل التي تتمنى لو أن الكتاب الواحد منها مجلدات، فما أندر الكتاب الذي هذا وصفه، والذي يحلق بك في خيال واسع، ويأسرك معه في أحداثه فلا تستطيع مفارقته حتى نهاية الطريق، ثم هو لا يفارقك بعدها، بل يضل شاخصا في عينيك ماثلا في ذهنك ما شاء الله.
مالك يا دكتور إبراهيم وللرجل غفر الله لكما، ( ... نمساوي يهودي ... )! ( ... وما يبدو الإسلام معه شيئا آخر غير الذي نعرف ... )!، فهلا قلت ببعض قولك، فما أرادنا الرجل بتلك الكتب، ولا وجهها إلينا، فهب أنا استننا بسنتك، وانتهجنا شرعتك، لما بقي لنا من أهل الفضل إلا القليل.
والنقد كالدواء الذي يتجرعه المرء ولا يكاد يسيغه، إلا أنه يتصبر رجاء حسن العاقبة، ومن حسنه وطأته على النفس لأنه يهذبها ويشذبها، وكأن هذا التشذيب سنة كونية من الله لبعض مخلوقاته تستمد منه ديمومتها، حتى بعد موتها ليكون لها الذكر الثاني، فأي ثقل يمكن تصوره للنقد في صورته الثانية، إلا لدا وسعوطا يلد به من لا يشكي السقام.
والناس عموما في عالمنا العربي لا تعرف الرجل إلا من خلال كتبه التي أشرت إليها، فماهي الفائدة المرجوة من التصدي لكتب إنما ألفها غالبا لليهود والنصارى، أو من كان كذلك، أليس الأجدر أن يشاد به بدلا من جعله غرضا، وهب أنك مصيب فيما ذهبت إليه، وأنك محق فيما اتكأت عليه، فماهي الثمرة والمحصل لهذا التشهير يادكتور عفى الله عنك.
وقعت في أحد المواقع على ثناء عاطر في حق صاحبنا، وكتابه الطريق إلى مكة، وتناصحهم بالبحث عن الكتاب والاطلاع عليه، وكل أخذ يدلي بما لديه وما استفاده من الكتاب، فقائل: أجمل رواية قرأتها في حياتي، وقائل: قصة لا كل القصص، وقائل: عرفني حال الجزيرة العربية في أيام لم أشهدها، وقائل: رأيت حديثه عن حشمة النساء في ذلك العهد، والكثير من السجايا والخصال، وقائل: أنست بشهادته لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحديثه عنها ...
حتى أورد أحدهم مقولتك عن فكر محمد أسد، فدق بينهم عطر منشم، وخيمت الخيبة على من تلى حسن الكتاب، وضرب الصمت بأطنابه، فقلنا: هذه أول بركات الدكتور عفى الله عنه، ومن عرف الطريق إلى مكة قبل معرفة المقالة فلا بد أن يعجب.
إننا نغفل كثيرا عن سياسة الصمت، والتي تكون أحيانا فقها كاملا في التعامل، بل إن السكوت يكون من العلم أحيانا، وللأسف ففي الأزمنة المتأخرة أصبحنا أمة لا تحسنه في مواضعه، وهذا مما بلينا به حيث أصبح الجدل سمة بادية في الزمان، وهو من الظلم الذي هو وضع الشئ في غير موضعه، وإنها لمشكلة اجتماعية وفردية نعيشها على جميع المستويات، وما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا والعياذ بالله (ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون)
وعموما أنا لست معك فيما كتبت، وإن كنت معك في الدفاع عن كتاب الله، فالكثير مما أوردته وأخذته على الرجل:
1ـ إما أن يكون خطأ يغتفر له ويسكت عنه حتى لا تشوه به صورة إحسانه.
2ـ وإما أن يكون مما يسع معه الخلاف فلا وجه إذا لهذا التشويه.
3ـ وإما أن يكون رأيا كان الصواب فيه حليفه.
وختاما لم أتقصد النقاش، فربما كنت معك من حيث يسري إليك أنني ضدك، لكن لا يحسن بأقلامنا أن تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، إنما استوقفني عموم الرد، وظلم الموقف، وطغيان العبارة، فأحببت تسجيل مروري.
4/ 4/1430