تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.

هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله .. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يَعبد، ورب يُعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.

ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر؛ والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى:

{وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة}

فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً. عبداً يَعبد، ورباًّ يُعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.

والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.

بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله .. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.

عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى الله عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً.

وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقاً. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبداً لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى الله منها!

ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير