من هذه القاعدة علينا أن ننطلق في حكمنا على أمور ديننا، وإذا وجدنا أمراً مُشْكِلاً لا ينسجم مع هذه القاعدة، أو أيٍّ من أساسيات فكر المسلم فيجب أن نعترف ـ حينئذٍ ـ بقلة علمنا، ولا نقف عند هذا الاعتراف، بل نسارع إلى التعلم وكسر الحواجز التي بيننا وبين كتب العلم، فالعلم يطفئ الظمأ، ويعالج الأرق، وبارك الله في الأخ سيف الدين إذ سأل عن أمر يبدو أنه يؤرقه فعلاً ـ كما قال ـ، مما حثّني على القراءة والبحث، لعلي أستطيع أن أفيده بإذن الله، فيتصالح مع هذا الموضوع الشائك، فليس العيب أن نجهل، ولكن العيب أن نرضى بالجهل ونسكت.
أتفق مع ما تفضل به الأخ خادم الكتاب والسنة، وبما أنه لم يتمكن من التفصيل فأنا سأقوم به من خلال الإجابة على الأسئلة التالية التي استخرجتُها من مشاركة الأخ سيف الدين، سائلة الله التوفيق:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. هل القول بالنسخ يقوم على الاجتهاد؟
2. هل هناك آيات صريحة تبين أن هذا الحكم نُسخَ بذاك؟
3. إذا لم يكن، فما هو السبيل لمعرفة الحكم الشرعي بأنه ناسخ أو منسوخ؟
4. هل يجوز للقارئ إذا بدا له تعارض بين حكمين أن يسرع إلى القول بالنسخ؟ أم أن هذا من اختصاص العلماء الذين يستندون إلى حجة؟
5. هل يمكن أن نوفق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"، وبين آية المواريث؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
لا يخفى أن النسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخٍ عنه، من هنا تكمن خطورة النسخ؛ ذلك أنه يتعلق بإثبات أحكام شرعية وإزالة أحكام أخرى، وتترتب على هذا أفعال المكلَّفين التي يحاسبون عليها، ولذلك نجد أن موضوع النسخ موضوع مشترك بين (علوم القرآن) و (أصول الفقه)؛ إذ إن معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه مما تُبنى عليه الأحكام الفقهية.
"إن أهمية النسخ وما يترتب عليه من نتائج أمرٌ لا بد فيه من الحيطة؛ لذا فإن الحكم على أحد النصين بأنه ناسخ أو منسوخ لا يخضع لاجتهاد المجتهدين، كما لا يؤخذ فيه بقول لا يستند إلى حجة، كما أن طريق النسخ لا يكون بالاجتهاد فإنه لا يُقبل فيه قول مُفسِّر حتى قول الصحابي ما لم يثبت بطريق صحيح، ويكون هذا القول مؤيداً بقرائن". [إتقان البرهان في علوم القرآن، د. فضل عباس، (11:2)].
أرأيت مدى الحرص والحيطة في الأمر، فالذي يقول بالنسخ وفق اجتهاد منه قوله مردود عليه ولا يلزمك الأخذ به.
"كما أنه ليس من طرق معرفة النسخ تقدُّم الآية أو تأخرها في كتاب الله، بحيث يقال إن الآية المتقدمة منسوخة، والمتأخرة ناسخة؛ لأننا نعلم أن ترتيب القرآن في المصحف يختلف عن ترتيب النزول.
ألا ترى إلى قوله تعالى: (والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) [البقرة:234] جاءت قبل قوله سبحانه: (والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول .. ) [البقرة:240] والآية الأولى ناسخة والثانية منسوخة". [إتقان البرهان، (12:2)].
إذن فما هو السبيل لمعرفة الناسخ من المنسوخ؟
من طرق معرفة النسخ:
أولاً: أن يكون أحد النصين فيه دلالة على تأخره عن النص الآخر، وذلك مثل قوله تعالى: (آلان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) [المائدة:66]، فإن في هذا النص دلالة على أنه متأخر عن قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) [الأنفال:65]، .. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، فإنه دالٌّ على تأخر الإباحة عن النهي.
ثانياً: من طرق معرفة النسخ الإجماع على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر عنهما.
ثالثاً: أن يرد بطريق صحيح عن أحد الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر، أو التراخي عنه، كأن يقول: نزلت هذه الآية بعد تلك الآية، أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية، او يذكر العام الذي نزلت فيه الآيتين.
أما قول الصحابي: هذا ناسخ وذاك منسوخ فلا ينهض دليلاً على النسخ، لجواز أن يكون صادراً في قوله هذا عن اجتهاد، بخلاف تعيين وقت النزول. [انظر: مناهل العرفان، الزرقاني، (225:2)].
¥