قد نحسب لأول وهلة أن الحديث المستفيض عن اليوم الآخر في السور المكية كان سببه إنكار العرب الباتّ للبعث والحساب والجزاء:
"وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟ أفترى على الله كذباً أم به جنّة؟ ".
"أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد".
وحقاً لقد كان هذا الإنكار الباتّ الجازم في حاجة إلى حديث مستفيض، حتى يزول عنه إصراره العنيد.
ولكن استمر الحديث عن اليوم الآخر في السور المدنية بعد أن قام المجتمع المسلم والدولة المسلمة، ووجد جيل من الناس يؤمن بالله واليوم الآخر، ويجاهد في سبيل الله، فيَقتل ويُقتل نتيجة إيمانه بالله واليوم الآخر كما وصفهم القرآن: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم".
استمرار الحديث عن اليوم الآخر بعد هذا دليل على أن الحديث المستفيض عن اليوم الآخر في السور المكية لم يكن كله بسبب إنكار المنكرين للبعث، ولا كان كله موجّهاً إلى أولئك المنكرين! إنما كان جزء منه على الأقل موجّهاً للذين آمنوا بالفعل بالله واليوم الآخر.
ثم هو دليل كذلك على أن الذين آمنوا بالفعل ليسوا في غنى عن التذكير باليوم الآخر، إنما هم في حاجة دائمة إلى التذكير .. والله هو العليم بخلقه، فلو علم سبحانه أن مجرد حدوث الإيمان باليوم الآخر يكفي، لما عاد القرآن لتذكيرهم المرة بعد المرة، إنما علم الله أنه لا بد من التذكير .. وإعادة التذكير! ولا بد إذن من سبب دائم يدعو إلى التذكير!
* * *
إن في النفس البشرية كما خلقها الله دوافع فطرية قوية متأصلة:
"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا ... ".
وقد كان لا بدّ ـ في تقدير الله وعلمه ـ أن تكون الدوافع قوية ومتأصلة، لتكون حوافز للعمل والنشاط والإنتاج، ودافعاً لعمارة الأرض، وهي جزء من عملية الخلافة التي خُلق من أجلها الإنسان:
"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة".
"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها".
فلو كانت هذه الدوافع ضغيفة بحيث يمكن إسكانها أو التغاضي عن إلحاحها بسهولة، لوقفت العقبات الكثيرة في الأرض بين الإنسان وبين القيام بمهمة العمارة والاستخلاف. . .
وإنما كانت قوتها لتستطيع الصمود لهذه العقبات والتغلب عليها، والتمكن في النهاية من تحقيق ما كتبه الله من تسخير طاقات الكون للإنسان، أو تحقيق الفائدة المتحصلة من ذلك التسخير:
"وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه".
ولكن الله الخالق العليم يعلم سبحانه أن هذه الدوافع إذا تركت وشأنها بغير ضابط فإنها تنقلب إلى (شهوات): "زين للناس حب الشهوات ... ".
وعندئذٍ تصيب الإنسان بالعطب أو الهلاك .. وبدلاً من أن تكون عوناً له على عمارة الأرض والقيام بمهمة الخلافة الراشدة فيها، فإنها تصبح قيداً يعوِّق عن الانطلاق، وشاغلاً يشغل عن مهام الخلافة الحقّة.
لذلك وضع الله في الفطرة ضوابط تضبط هذه الشهوات، وتحدد منطلقها وتنظف مجراها، وتردها من (شهوة) طاغية لا يملك الإنسان نفسه إزاءها، إلى (رغبة) منضبطة ممكنة القياد، ورسم حدوداً لتحقيق هذه الدوافع، يتحقق بها قسط معقول من المتاع، وتحول في الوقت ذاته دون العطب والهلاك، للفرد والجماعة سواء:
" تلك حدود الله فلا تعتدوها".
"تلك حدود الله فلا تقربوها".
ثم علم الله أن هذه الضوابط الفطرية في داخل النفس في حاجة إلى معين يعينها على القيام بمهمتها، وينميها، ويشد من أزرها إزاء طغيان الشهوات، فوضع لذلك العبادات التي تذكّر بالله، وتدعو إلى تقواه:
"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون".
"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".
لكنه يعلم كذلك ـ سبحانه ـ أن تلك الدوافع أو الشهوات لها ثقلة تجذبها إلى الأرض .. وأنه لا بدّ من ثقل من الناحية الأخرى يعادل هذه الجاذبية العنيفة التي تثقل الإنسان إلى الأرض .. وذلك هو الإيمان باليوم الآخر ..
¥