والوجه الآخر منهما أن يكون بمعنى الترك من قول الله جل تعالى.
ويحسن هنا أن أذكر أيضاً آراء علماء المعتزلة في تفسير هذه الآية، قال الزمخشري (الكشاف: 1/ 87): ونسخ الآية إزالتها بإبدال أخرى مكانها، وإنساخها الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عله السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل، وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى: أن كل آية يُذهب بها على ما توجبه المصلحة، من إزالة لفظها وحكمها معاً، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل (نأت بخير منها).
قال الطوسي في التبيان: 1/ 294: واختلفوا في كيفية النسخ على أربعة أوجه: قال قوم: يجوز نسخ الحكم والتلاوة من غير إفراد واحد منهما عن الآخر. - وقال آخرون: يجوز نسخ الحكم دون التلاوة. - وقال آخرون: يجوز نسخ القرآن من اللوح المحفوظ، كما ينسخ الكتاب من كتاب قبله. - وقالت فرقة رابعة: يجوز نسخ التلاوة وحدها، والحكم وحده، ونسخهما معا - وهو الصحيح - وقد دللنا على ذلك، وأفسدنا سائر الأقسام في العدة في أصول الفقه. وذلك أن سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد الله تعالى به، وشرعه على حسب ما يعلم من المصلحة فيه فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به، زال بزواله. وذلك مشروط بما في المعلوم من المصلحة به، وهذا القدر كاف في إبطال قول من أبى النسخ - جملة - واستيفاؤه في الموضع الذي ذكرناه.
وقال الطبرسي (مجمع البيان: 1/ 338):والنسخ في القرآن على ضروب منها: أن يرفع حكم الآية وتلاوتها، كما روي عن أبي بكر أنه قال: كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم). ومنها: أن تثبت الآية في الخط، ويرفع حكمها كقوله (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) الآية. فهذه ثابتة اللفظ في الخط، مرتفعة الحكم. ومنها ما يرتفع اللفظ، ويثبت الحكم، كآية الرجم، فقد قيل: إنها كانت منزلة، فرفع لفظها. وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن، فنسخ تلاوتها. فمنها ما روي عن أبي موسى، أنهم كانوا يقرأون: " لو أن لابن آدم واديين من مال، لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب " ثم رفع. وعن انس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا فيهم كتابا. " بلغوا عنا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا) ثم إن ذلك رفع.
على كل حال لو أردنا استيعاب أقوال العلماء في تفسير هذه الآية فإن ذلك يطول، لكننا نقول باطمئنان إن جمهور علماء التفسير، بل الجمهرة الغالبة منهم يرون أن هذه الآية يُفهم منها النص على منسوخ التلاوة، فإذا ما أضفنا إليها قوله تعالى:) وإذا بدَّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلمُ بما يُنَزِّل قالوا إنَّما أنت مُفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون (، وأقوال المفسرين فيها لا يختلف عن خلاصة أقوالهم في تفسير آية ما ننسخ، قال الطبري في تقسيره: 14/ 176): وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله) وإذا بدلنا آية مكان آية (قال أهل التأويل، ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل وحدثني المثنى قال: أخبرنا إسحاق قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: وإذا بدلنا آية مكان آية:رفعناها فأنزل غيرها، حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد: وإذا بدلنا آية مكان آية، قال: نسخناها بدلناها: رفعناها وأثبتنا غيرها، حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله: وإذا بدلنا آية مكان آية هو كقوله ما ننسخ من آية أو ننسها، حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: وإذا بدلنا آية مكان آية، قالوا: إنما أنت مفتر،تأتي بشيء وتنقضه فتأتي بغيره قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدل آية مكان آية إلا بنسخ.
ولا أريد أن أسترسل كثيراً في تفسير هذه الآية فهي برأيي أظهر في الدلالة على نسخ التلاوة من الآية الأولى.
ويمكن أخيراً أن ننظر في تفسير قوله تعالى:) يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (. إذ قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية (الجامع لأحكام القرآن: 9/ 331): وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله ويثبت مايشاء فلا ينسخه وجملة محمود والمنسوخ عنده في أم الكتاب ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس قال النحاس وحدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يمحو الله مايشاء يقول يبدل الله من القرآن مايشاء فينسخه ويثبت مايشاء فلا يبدله وعنده أم الكتاب يقول جملة ذلك عنده في أم الكتاب محمود والمنسوخ، وكذا ذكر الطبري في تفسيره 13/ 169، وتابعهما على هذا عدد من المفسرين.
إذاً فإمكان وقوع النسخ عقلاً كما بينت، وذكر العلماء من كافة الطوائف والتخصصات لهذا النوع من النسخ واستدلالهم على وقوعه، ثم ما قاله المفسرون في تفسير قوله تعالى:) ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (وقوله تعالى:) وإذا بدَّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلمُ بما يُنَزِّل قالوا إنَّما أنت مُفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون (وقوله تعالى:) يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (. دليل على أن هذا النوع من النسخ واقع دراية، بعدما استشهدت على ذلك رواية، فإذا انضافت الرواية إلى الدراية أفادت يقيناً عند من يُقدر العلم والاستدلال، ومن ينكر الأدلة ويتشبث بالأوهام فنسأل الله له العودة والإياب.
والمقصود التركيز على معنى الإنساء الوارد في هذه الآية إذ إنه من أقوى الأدلة على هذا النوع من النسخ، ولسوف آخذ عينة من أقوال علماء الشأن في كل مرحلة زمنية، وما هي توجيهاتهم لهذا، وحرصت على أن لا يكون عملي انتقائياً فسأذكر الموافق والمخالف.
يتبع القسم الثالث والأخير الرد على الشبهات إن شاء الله تعالى .....
¥