ـ[عبدالله الشهري]ــــــــ[13 Feb 2006, 01:55 م]ـ
قبل الاستمرار في تفاريع الموضوع أود من القاريء الكريم أن يفرق بين نوعين من التأثر بالقرآن، الأول:
1 - التأثر اللغوي بالقرآن، ويمكنه أن يؤثر في كل شخص: المسلم والكافر، الموحد والملحد، المبتدع والسالك لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والمراد بالتأثر اللغوي، اكتساب بعضاً من أسلوب من القرآن في إعراب الكلام وإخراجه على وجهه الذي عرفته العرب، وتحصيل الملكة اللغوية الأصيلة، المقومة "للتأتأة" وغيرها من عيوب الكلام، والتي يعتني بها علم تقويم العيوب النطقية ( pathology). ونحو هذا المعنى جاء الحديث (أخوف ما اخاف عليكم كل منافق عليم اللسان)، مما يدل أنه قد يكون الرجل مؤمنا إيماناً جازماً ولكنه يقرأ القرآن وهو عليه شاق، بل يتحدث مفتقراً إلى البلاغة والبيان، كما حصل مع نبي الله موسى عليه السلام، (واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي) الآية. وهذه المشقة هو صورة من صور العيوب الكلامية التي يعتني بعلاجها علم اللغة النفسي بالتظافر مع علم "الصوتيات" و علم "تقويم الكلام" (ولست أقصد تقويم مجرد النطق الظاهر والتلفظ بالحركات وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه، الذي هو من اختصاص "التجويد" وإن كان داخلاً فيه، بل هو أبعد لأنه يتعلق بالحالة النفسية والعضوية التي تحجز المتكلم عن إعراب الكلام على وجهه السليم).
2 - التأثر النفسي بالقرآن، وهو على ضربين: التأثر النفسي الفكري، والتأثر النفسي العاطفي. فهذا النوع من التأثر يعد مشروطاً بحصول الشرط وزيادة. والشرط هنا هو "الفقه اللغوي" أي فقه لغة القرآن وسنن العرب في الكلام، واما الزيادة هنا، فهو أمر زائد عن مجرد فهم دلالات الكلام، ألا وهو تجاوز العلم بدلالات الألفاظ إلى المعرفة بمعانيها، مما يدفع المحصّل لذلك إلى الوقوف عند حدوده واستشعار قبح إتيان ما نهى عنه وحسن الإقبال على ما أمر به، ولذلك فلربما وجدت البارع في لغته، تأثراً بلغة القرآن، ولكنه غير مستفيد منه، ممنوع من التأثر بمفهومه المنطوق وغير المنطوق، وهذا لن ينتفع بأكثر من الفصاحة الظاهرة والبلاغة الساطعة.
ويمكن لعلم اللغة النفسي أن يساهم في تفسير شيء من هذه العملية. ومن هذه التفاسير، انعدام الدافعية الجاذبة ( motivation) وانعدمها يسمى اللادافعية ( amotivation) . وهذا متعلق بما يسمى المرشحات الشعورية ( affective filters). وصاحب المفهوم الأخير عالم اللغويات "كراشن". والفرضية الأخير تشير إلى أن مجموع إرادات الأنسان ونواياه وكذلك مجموع خبراته الماضية يساهم مساهمة عظيمة في فهم الدلالات اللغوية على صورة معينة، بسبب ما يصنعه ذلك من "حُجُب" مترادفة، منها ما يسمح بالمعنى الصحيح بالنفاذ إلى النفس ومنها ما يشوّه المعنى الصحيح فيدخل مشوهاً ومنها ما يصُد المعنى الصحيح فلا يدخل البتة ومنها – وهو أسوأها – ما لا يسمح إلا للمعاني الخاطئة بالدخول، ولذلك تختلف "الدوافع" كما أشرنا نحو الاستفادة من دلالات ألفاظ القرآن على مستويين: مستوى الاستفادة اللغوية والنفسية، مستوى الاستفادة اللغوية فحسب (مثل، كما أشرنا، جزالة ألفاظ المتحدث مع خلو قلبه من التفاعل مع معاني هذه الألفاظ). وكل هذا بدوره وثيق الصلة بما نسميه "الفقه السمعي" أو ( auditory comprehension). وهو جانب الاستفادة الشعورية والفكرية من دلالات اللغة، وفقه المعاني.
قال الله تعالى (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بعزيز)
وقال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
قال ابن كثير: وقوله تعالى" ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.
فهذا ومثله دليل على وجود "الحجب (المرشحات) الشعورية" التي تحجب الدلالات العميقة للألفاظ من مباشرة القلوب.
في المرة القادمة، سوف أتعرض للوسائل التي يقترحقها علم اللغة النفسي، لإصلاح هذه المرشحات الشعورية وتهيئتها، بما يساعد في الاستفادة من فهم دلالات الألفاظ قدر الإمكان.
ـ[فهد الناصر]ــــــــ[14 Feb 2006, 01:44 م]ـ
ما شاء الله. معلومات قيمة تدل على دقة فهم. ونرجو الاستمرار، وفي مداخلة الدكتور أبو بكر خليل بعد عن الموضوع في رأيي. والعناية بهذا الموضوع عند أهل اللغة ليست كبيرة، فلعل بحث الأستاذ عبدالله الشهري يعد إضافة جيدة للموضوع، نتمنى له التوفيق.
ـ[عبدالله الشهري]ــــــــ[18 Feb 2006, 12:10 م]ـ
فائدة عابرة: يتحدث النحويون عن قاعدة "زيادة المبنى تورث زيادة المعنى"، واعترض بعضهم - كابن هشام - وقال أنها ليست مطردة. فمثلاً: يقول البصريون "سوف" أوسع تنفيساً من "السين"، كقولنا "سوف تعلمون" وقولنا "ستعلمون"، فالأول "أوسع تنفيساً" من الثاني، أي أوسع في إخراج الفعل من زمن الحاضر إلى الزمن المستقبل. واعتراض ابن هشام وغيره صحيح، لوجود الأمثلة الكثيرة على خلاف القاعدة، ولكني أجد لها تفسيراً نفسياً مفيداً، وهو أن علم اللغة النفسي يبرر صحة هذه القاعدة من جانب آخر، وذلك من حيث أن أي خبرة إنسانية عبارة عن مجموعة من المعلومات "المركبة" من مفردات خبراتية، وحسب علم النفس "الجشتالي" فإن العقل بطبيعته يحب أن يعطي لكل خبرة مفردة مهما بدت صغيرة معنى خاصا وتفسيرا معينا، فزيادة المبنى في "سوف" وما ماثلها يصلح مثالاً هنا، إذ أن العقل ينجر لإسباغ المعنى على "حروف المباني" الزائدة، متوقعاً زيادة في المعنى لأنه يستبعد حصول زيادة اعتباطية لا معنى لها على الإطلاق، وهذا أيضاً يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي تنأى عن المفاهيم الفارغة من المعاني.
¥