تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلت: فعلى أن السَّكَر الخَلُّ أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمّون الخلّ السَّكَر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبي لَيْلى والكَلْبِيّ وغيرهم ممن تقدّم ذكرهم، كلهم قالوا: السَّكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكَر اسم للخمر وما يُسكر، وأنشدوا:

بئس الصُّحاة وبئس الشَّربُ شَربهُم إذا جرى فيهم المُزّاء والسّكَر

والرزق الحسن: ما أحله الله من ثمرتيهما. وقيل: إن قوله «تتخذُون مِنه سَكَراً» خبرٌ معناه الاستفهام بمعنى الإنكار؛ أي أتتخذون منه سكراً وتَدعون رزقاً حسناً الخلَّ والزبيبَ والتمر؛ كقوله: {فَهُمُ ?لْخَالِدُونَ} أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكَر الطُّعم، يقال: هذا سَكَر لك أي طُعم. وأنشد:

جعلتَ عَيْبَ الأكْرَمِين سَكَراً

أي جعلتَ ذمهم طُعماً. وهذا اختيار الطبري أن السّكَر ما يُطعم من الطعام وحَلّ شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد؛ مثل

{إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ?للَّهِ}

[يوسف:86] وهذا حسن ولا نسخ .. ". انتهى

و بيان اختيار الإمام الطبري المذكور ما يلي:

" وقال آخرون: السَّكَرَ: هو كلّ ما كان حلالاً شربه، كالنبيذ الحلال والخلّ والرطَب. والرزق الحسن: التمر والزبيب. ذكر من قال ذلك:

حدثني داود الواسطيّ، قال: ثنا أبو أسامة، قال: أبو رَوْق: ثني قال: قلت للشعبيّ: أرأيت قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أهو هذا السَّكَر الذي تصنعه النَّبَط؟ قال: لا، هذا خمر، إنما السكر الذي قال الله تعالى ذكره: النبيذ والخلّ والرزق الحسن: التمر والزبيب.

حدثني يحيى بن داود، قال: ثنا أبو أسامة، قال: وذكر مجالد، عن عامر، نحوه.

حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} قال: ما كانوا يتخذون من النخل النَّبيذ، والرزق الحسن: ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن أبي رَوْق، عن الشعبيّ، قال: قلت له: ما تتخذون منه سَكَراً؟ قال: كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ قلت: والرزق الحسن؟ قال: كانوا يصنعون من التمر والزبيب.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: السَّكَر: النبيذ والرزق الحسن: التمر الذي كان يؤكل.

وعلى هذا التأويل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت.

وهذا التأويل عندي هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السكر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طُعِم من الطعام، كما قال الشاعر:

جَعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا

أي طعماً. والثالث: السُّكُون، من قول الشاعر:

جَعَلَتْ عينْ الحَرُورِ تَسْكُرُ

وقد بيَّنا ذلك فيما مضى. والرابع: المصدر من قولهم: سَكِرَ فلان يَسْكَرُ سُكْراً وسَكْراً وسَكَراً. فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراماً بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى: «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام» وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو ما نَفَى حكمه الناسخ وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السَّكَر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو كلّ ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السَّكَرَ في هذا الموضع: هو كلّ ما حلّ شربه مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السَّكَر نفسه، إذ كان السَّكَر ليس مما يتخذ من النَّخْل والكَرْم، ومن أن يكون بمعنى السكون.

وقوله: {إنَّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يقول: فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس من الأنعام والنخل والكرم، لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ويفهمون عنه مواعظه فيتعظون بها ". انتهى

* و كلمة " السكر " الواردة في الآية تحتمل ذلك المعنى، و تكون ألصق بالسياق، و أنسب لمعنى الامتنان المسوقة الآيات لبيان بعض وجوهه، و خروجا مما لا ضرورة القول به من النسخ،

* جاء في الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ، كِتَابُ الْمَنَاقِبِ، فَضْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:

" رَجُلًا جَلَبَ سَكَرًا إِلَى الْمَدِينَةَ فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ

ح 4146 وقال مسدد: ثنا حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين: قال: إن " رجلا جلب سكرا إلى المدينة فكسد عليه، فقالوا له: ائت عبد الله بن جعفر، فأتاه فاشتراه منه بده دوازده وقال: من شاء أخذ فقال الرجل: آخذ معهم؟ قال: خذ " *

هذا و الله تعالى أعلم

و الموضوع الأصل: هل إباحة الخمر - قبل التحريم - ثبتت بنص كتاب الله عزَو جلَ؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير