وكل حكم غير حكم الله باطل، وكل شرع يتعارض مع شرع الله منكر مردود ظالم قبيح. والمجتمع الإسلامي لا يقرّ أي حكم جاهلي؛ لأنه ملتزم بحكم الله. والمسلمون الصالحون لا يتحاكمون إلى حكم يتعارض مع حكم الله لأنه حكم أهل الجاهلية، ويستحيل على مؤمن أن يساوي بين حكم الله وحكم أهل الجاهلية، كما أنه يستحيل على مؤمن أن يترك حكم الله، ويطلب حكم أهل الجاهلية، وأن يظن أن حكم أهل الجاهلية أفضل أو أعدل أو أنسب من حكم الله، ويستحيل على الدولة المسلمة أن تقرر في قوانينها حكماً جاهليّاً، وتشريعاً جاهليّاً، متعارضاً مع حكم الله.
الجاهلية في هذه الآية جاهلية حكم وتشريع، وجاهلية قانون ونظام. وتقرر بصراحة أن الحكم نوعان لا ثالث لهما: حكم الله في مقابل حكم الجاهلية، ومن لم يشرع أو يطبق حكم الله، فقد شرع أو طبق الحكم الجاهلي لا محالة. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
ثالثاً: تبرج الجاهلية:
وردت "تبرج الجاهلية" في سياق توجيه المسلمات إلى الفضائل، ونهيهن عن الرذائل. قال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل المسلمات من بعدهن: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) (الأحزاب: 33).
ينهى الله المؤمنات عن أن يتبرجن كما كانت تتبرج النساء في الجاهلية الأولى. (تبرجن): فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وهو في محل جزم بلا الناهية وأصله بتاءين: "ولا تتبرجن"، فحذفت تاء المضارعة للتسهيل، وصار الفعل: (تبرجن). و (تبرج): مفعول مطلق و (الجاهلية): مضاف إليه لمضاف محذوف، والتقدير: ولا تتبرجن تبرج نساء الجاهلية الأولى.
والتبرج: إظهار المرأة لعورتها، عند خروجها من بيتها، بأن تسير في الشارع أو تجلس في الأماكن العامة وهي تكشف شعرها، أو تضع المساحيق على وجهها، أو تكشف عن عنقها أو عضدها أو صدرها أو رجلها أو بطنها أوسرّتها ...
واعتبرت الآية خروج النساء متبرجات كاشفات لعوراتهن من فعل النساء في الجاهلية الأولى، ودلَّ هذا على أن خروج النساء متبرجات سلوك جاهلي بدائي، لا تفعله المرأة الجادة الواعية العفيفة. والجديد في الآية أنها وصفت الجاهلية بالجاهلية الأولى، والمراد بالأولى الأولية الزمنية، أي: الجاهلية السابقة، التي كانت عليها النساء في القرون القديمة، حيث كانت تخرج كاشفة عن مفاتنها.
ووصف الجاهلية بالأولى يدل على أن هناك جاهلية ثانية وثالثة ورابعة، تمر بها النساء في أزيائهن وملابسهن، وفي تبرجهن وتعرّيهن. كما أن وصف جاهلية التبرج والأزياء بالأولى يدل على أن التبرج والتعري ليس فنّاً ولا تقدماً، ولا حضارة ولا "شياكة"، وإنما هو "رجعية" وانحطاط، وتأخّر وتخلّف، لأنه عودة بالمرأة إلى عصور التخلف والبدائية والظلام!
إن المرأة التي ترضى لنفسها أن تقدم جسدها للرجال متخلفة، والتي تكشف أمامهم من جسمها أكثر مما تستر رجعية، تعود إلى البدائية الأولى للبشرية، ولا يتفق هذا مع كرامة المرأة وعفتها وطهارتها. وإن التبرج والتعري سلوك جاهلي طائش، وإن كل امرأة تقوم بهذا التصرف إنما هي جاهلية رجعية متخلفة، أما العفيفة المتسترة فهي المتحضرة المتمدنة الواعية المتزنة.
رابعاً: حمّية الجاهلية:
وردت "حمية الجاهلية" في سياق المقارنة بين ما عليه الكفار من حمية واعتزاز، في مقابل ما عليه المؤمنون من سكينة وهدوء. قال تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً) (الفتح: 26).
تتحدث الآية عن ما فعلته قريش بالمسلمين، عندما منعت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدخول إلى مكة معتمرين، وأوقفتهم في سهل "الحديبية"، وأدت المفاوضات في النهاية إلى عقد صلح "الحديبية" في نهاية السنة السادسة من الهجرة.
لماذا منع الكفار دخول المسلمين الحرم معتمرين مع أنه مفتوح لكل من أتاه حاجّاً أو معتمراً؟! لماذا يُمنع منه المسلمون مع أنهم أهله الأصلاء؟! إن الذي دفعهم إلى هذا هو "حمية الجاهلية". والحمية هي الأنفة والإباء، مأخوذة من "الحمي"، وهو القوة المحركة التي تحمي وتسخن، وتولد الحرارة المعنوية. هذه الحمية الغضبية هي التي حركتهم وسخّنتهم، ودفعتهم إلى أن يخالفوا المنطق والعقل، ويمنعوا المسلمين من دخول الحرم، بدون ذنب ارتكبوه، إلا أنهم مسلمون! ومنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأنزل السكينة عليهم، وملأت عليهم حياتهم، ودفعتهم إلى حسن التصرف، ومقابلة حمية قريش الجاهلية بتلك السكينة الإيمانية.
و"الجاهلية" في الآية مضاف إليه لمضاف محذوف تقديره:"حمية أهل الجاهلية". فالجاهلية هنا جاهلية انتماء سياسي وقومي، وتصرف قيادي؛ لأنها صفة للحالة العامة التي كان عليها زعماء قريش، عندما أصدروا قرارهم القيادي السيادي بمنع المسلمين من أداء العمرة. والجاهلية حالة يكون عليها الزعماء والمسؤولون، عندما يتخذون قراراً جائراً ظالماً خاطئاً، لأن الذي دفعهم إلى هذا القرار "حمية الجاهلية".
فالجاهليات المذكورة في القرآن أربعة: جاهلية عقيدة وظن، وجاهلية حُكْم وتشريع، وجاهلية تبرُّج وسلوك، وجاهلية حميَّة واندفاع!
المصدر ( http://www.hoffaz.org/forqan/F2005/F46/furqan46-05.htm)