سال يونس هذه الأسئلة – وكان كغيره من البشر معرضا لليأس والإحباط] ذلك إن الأنبياء أيضا بشر رغم إننا ننسى ذلك! [وخرج من نينوى فارا من الأجوبة على تساؤلاته اكثر مما كان هاربا من مواجهة الواقع. والجزء الذي ركز عليه الخطاب القرآني هو هذا الجزء بالذات: فالقران يصور يونس وهو في ذروة يأسه وإحباطه: ترك مجتمعه وهجره لا ليرسي قواعد مجتمع جديد كما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد – ولكن هجره ياسا، احباطا، هجره، وقد هجر معه قيم العمل والتغيير وحلم الأنبياء والدعاة عبر العصور – أي كما يهجر معظمنا معظم مجتمعاتهم ..
وركب يونس البحر – وهو يتصور انه ترك مجتمعه إلى غير رجعة. لكنه اصطدم بنفس القيم الجاهلية والخرافية التي هرب منها حيث كان يجب ان يحاربها. فالمجتمع الجاهلي ليس مدينة وأصنام وحكام مستبدون فحسب – بل هو مجموعة القيم التي تساهم في ذلك أو ترافقه أو تنتج عنه ..
وعندما هبت العاصفة في البحر – على السفينة التي تقل يونس كما تقل غيره – لجا الركاب إلى طريقتهم الخرافية الجاهلية في مواجهة العواصف وأزمات البحر – فقد كانت عقائد الخرافة والجهل التي تسيطر على عقولهم تصور لهم ان (إلها ما) من عشرات الإلهة التي كانوا يعتقدون بوجودها قد غضب على البحر والسفينة، بسبب وجود شخص معين غير مرغوب به على ظهر السفينة. والحل؟ الحل ببساطة يكمن في رمي هذا الشخص إلى البحر – وبهذه السهولة- من اجل استرضاء اله ما واستعطافه على بقية الموجودين في السفينة.
اما كيف يتم تحديد هذا الشخص غير المرغوب فيه فبكيفية التحديد تتجسد في لقطة واحدة سريعة كل القيم الجاهلية السائدة: القرعة هي التي تحدد هذا الشخص العاثر الحظ الذي عليه ان يكون ضحية لقيم الخرافة والتواكل والجهل. وهكذا وبدون ذنب وبناء على احكام اعتباطية تعتمد على محض الصدفة يقدم شخص برئ كأضحية لاله مجهول الهوية ومجهول سبب الغضب ..
وتكمن ذروة المفارقة في ان الاقتراع رسى على يونس باعتباره الشخص غير المرغوب به والذي سبب أزمة السفينة] والحقيقة ان نتيجة القرعة كانت صائبة بطريقة ما، فلو كان لتلك الآلهة وجود لاعتبرت يونس غير مرغوب به باعتباره يمثل خطرا مباشرا عليها – لكن ذلك لا علاقة له على الاطلاق بأزمة السفينة [المهم هنا ان يونس وجد نفسه محاصرا بكل المفاهيم والعادات والقيم المستندة على مجتمع الجهل والخرافة، محاصرا لا بالمعنى المجازي – بل بمعنى مباشر، بمعنى يتهدد حياته مباشرة هو الذي هرب من نينوى فرارا من مسؤولية المواجهة والتغيير فوجد نفسه في البحر – في المكان الذي تصوره آمنا من المسؤولية – محاصرا بالقيم التي هرب من مواجهتها – فأين المفر؟.
لا مفر هناك. انك ان لم تحارب، فانهم سيحاربونك في كل الأحوال.
وستكون مهزوما في كل الأحوال لانك لم تحارب أصلا. كانت هذه الرسالة الواضحة عبر الموقف لا لصاحب الحوت فحسب ولكن ربما لنبي اخر، مثل يونس، ربما مر بذلك الشعور الذي ساور يونس: الرغبة في الهروب - والخوف من المسؤولية – فنزل عليه الوحي: لا تكن كصاحب الحوت ..
والرسالة مفتوحة أيضا لنا أيضا: الهروب ليس حلا، انه جزء من المشكلة التي تتكرر في كل زمان ومكان عبر العصور والازمان ..
وواجه يونس المصير الذي سبق ان واجهه عشرات الضحايا، ضحايا الخرافة والجهل والاستبداد – فألتقمه الحوت كما جاء في نص الخطاب القرآني (وان يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فألتقمه الحوت وهو مليم) الصافات 139 - 142.
وفي بطن الحوت كان يونس وحيدا. بطن الظلمة وأحشاء الحوت الساخنة الملتهبة تلتصق به تضيق عليه وتتقلص – وهو في ذلك الحيز الضيق – هل نستطيع ان نتخيل شعوره؟.
¥