لقد كان يونس في أقاصي اليأس. أي أمل يمتلكه شخص التقمه الحوت – ولأي سبب من الأسباب لم يمت بعد؟ أي نور وهو في عمق الظلمة في قاعها في دركها الأسفل بين أمعاء الحوت وأنيابه – وفي صورة الأنياب المشرعة أمام يونس والأحشاء التي حبس بداخلها رأى أيضا نفس القيم التي هرب من مواجهتها وتغييرها: أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسد فيه قيم الغابة المتوحشة: الكبير يأكل الصغير. القوي يلتهم الضعيف أي مكان آخر غير بطن الحوت يتجسم فيه ذلك كله بطريقة مباشرة، بينما الحوت يلتهم سمكة متوسطة الحجم كانت قد فرغت للتو ربما من التهام سمكة اصغر منها. أي ظلم. وأي ظلم ان تكون هذه القيم وهذا المنطق سائدا على البشر أيضا، حيث يلتهم السمك الكبير السمك الصغير، ويلتهم القوي الضعيف.
وأي ظلم – ربما اكبر من هذا كله – أن يستسلم السردين البشري لحيتان الظلم والطغيان والخرافة والاستبداد دون ان يحاولوا تغيير هذا الواقع .. دون أن يقفوا بوجه الحوت ليصرخوا ليحتجوا. وأي ظلم بعد ذلك كله ان يهرب من المواجهة من هو أهل لها. أي ظلم هو اليأس أي ظلم هو الهروب.
وفي لحظات كهذه تراءى ليونس الظلم الحقيقي لهذا الوضع كله. ليس الجلاد ظالما فحسب. الضحية ظالمة أيضاً. ظالمة باستسلامها للجلاد ظالمة لنفسها ولقوافل الضحايا السابقين واللاحقين. ليست القرعة وأسلوبها ظالمين. الظلم أيضا في استسلام المقترعين لواقع الخرافة والصدفة المتحكمة. ليست قيم الجاهلية ظالمة وحدها: الظلم هو في استمرارها دون تغيير. دون تمرد. دون ثورة. الظلم هو اليأس الإحباط، الهروب. الظلم هو السلبية التي تشل الإرادة وتعطل الأعصاب.الظلم هو أسئلة كهذه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
.. وبزغ النور.
من بطن الحوت: ذروة الياس ودرك الواقع المظلم حالك السواد، بزغ النور.
وكان الدعاء (لا اله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين)] الأنبياء 87 [الظالمين؟. هو من الظالمين!. هو الذي القي في البحر بعد قرعة ظالمة؟ لكن – معنى الظلم تغير بعد ان استقر في بطن الحوت – وشاهد اوجها مختلفا للظلم ..
(فلولا ان كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم تبعثون) (الصافات 143 - 144) ليس التسبيح هو مجرد قول باللسان كما تعودنا ان نتصور – بل هو رؤية كاملة تغيرت – فكرة جديدة نبتت .. وعي جديد لمعنى الظلم والمسؤولية تجاه ذلك. هذا الوعي والرؤية والفكرة هي التي أعطت ليونس فرصة جديدة ولولا ذلك للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، بطن الياس والظلمة والسواد الحالك ..
لكن ذلك لم يكن يكفي: الوعي والرؤية النظرية المجردة لا يكفيان وحدهما. المهم هو الايمان الداخلي بإمكانية التغيير. الإيمان بجدوى العمل. المهم هو جذوة الأمل المشتعلة في الأعماق حتى ولو ببصيص شمعة في البداية ..
وفي العراء: تجسم الامل في شجرة نبتت امام يونس. (فنبذناه في العراء وهو سقيم وانبتنا عليه شجرة من يقطين) الصافات (145 - 146) في العراء المتخوم جدبا وقحطا كنفس الانسان اليائس، تنبت شجرة أمام يونس فجأة لتعطيه درسا يمحو الياس من أعماقه ويزهر نبتة الأمل في نفسه التي كانت قبل ذلك صحراء عارية.
انه اليقطين المثمر الذي انتصر على حوت الظلمة واليأس في نفس يونس. انه اليقطين الذي اثمر في عراء نفسية يونس في صحرائه في جروده العارية وأعطاه الإشارة- الإيحاء بان التغيير ممكن .. وان باستطاعة رجل واحد ان يفعل الكثير فقط إذا سمح لشجرة اليقطين ان تنبت في أعماقه: بالعمل والجهد المخلص.تسلح يونس بشجرة اليقطين الأمل والأيمان بجدوى العمل – (وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون) الصافات 147 – حيث صار بإمكانية رجل واحد الكثير .. انه يونس نفسه الذي ترك نينوى فارا من تحمل المسؤولية – لكنه يونس مختلف الان انه صاحب الحوت الذي مر بالتجربة وتجاوزها – انه يونس الذي أثمر في عرائه نبتة الأمل وشجرة الأيمان بالقدرة على التغيير. انه يونس الذي تغيرت رؤيته للعالم بعد ان دخل في بطن الحوت، وخرج منه شخصا اخر متحملا لمسؤولية الدعوة والتغيير والتحدي ..
ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. بطن الياس والظلمة والنسيان.
* * *
¥