ففي كل الرسالات السابقة كان الخطاب الإلهي يعتمد على أعجاز (حسي). عصا تسعى، يد بيضاء، طير يعود إلى الحياة …
في كل الرسالات السابقة كان الله يخاطب في الإنسان حواسه …
لكنه في هذه المرة، ربما لأنها المرة الأخيرة، اختار – عز وجل – طريقة اخرى. مضمون آخر، وصيغة أخرى …
انه يخاطب أول ما يخاطب العقل الإنساني هذه المرة. دونما اعتماد على الحواس الإنسانية. انه يؤسس للغة جديدة في العلاقة بين الله والإنسان. لغة تعتمد على العقل ..
بعدما ثبت للبشر فشل اللغات الأخرى في العلاقة بينهم وبين الله.
لذلك تأتي إقرأ: صيغة ورمز لعلاقة جديدة. بطاقة مختلفة لتعريف مختلف يقدم بها الله وحيه الالهي.
واي كلمة، تلك هي إقرأ.
* * *
إقرأ: كلمة السر – الذي لم يعد سراً بل صار جهراً في العقيدة الجديدة، دونما ابهار او اساطير او معجزات تشبه القصص الخرافية …
…. وبينما تنام شعوب على خيالات كلمة السر التي تفتح مغارات الكنوز،فأن كلمة السر هذه قيلت في الغار ثلاث مرات لرجل أمي ولأمته من بعده ففتحت أبواب العلم وافاق المعرفة، وجنيت كنوز وكنوز للانسانية عبر القرون التي سادت فيها حضارة إقرأ.
ولا يدري احد على وجه التحديد في أي مرحلة من مراحل العلم سنكون اليوم لو لم تقال تلك الكلمة – السر …
لكن الذي حدث ان تلك الكلمة التي قيلت في الغار همساً، صارت شعاراً لحضارة، ومنهاجاً لحياة، واول ما انزل من كتاب سيتخذ من الفعل ذاته (قرأ) اسماً يتلى ويتعبد به في صور وعقول اتباعه …
* * *
وكلمة إقرأ لم تكن أول كلمة أنزلت من الوحي فحسب.
بل كانت أول فعل أمر أصدره الله إلي رسوله الأخير، والى أمته من بعده، بطبيعة الحال.أي إنها كانت ببساطة شديدة. ودونما تشنجات فقهيه – اول فرض فُرِضَ على محمد (صلى الله عليه وسلم).
القراءة: أول فرض في الإسلام، قبل الصلاة والصوم والزكاة والحج.
وبعبارة أخرى: كانت كلمة (إقرأ) الشاملة هي المدخل الذي فُرِضَتْ عبره كل الفرائض الأخرى …
وبعبارة أوضح و أدق: كان العلم – بمعناه الشمولي والواسع هو الإطار الذي من خلاله أخذت كل الفرائض الإسلامية موقعها الذي حددته الشريعة فيما بعد …
والحديث عن علاقة الإسلام بالعلم بات حديثاً مكرراً استهلكت فيه المعاني ونفذت وهو حديث يرتكز على الاستشهاد بعدد من الآيات القرآنية التي تشيد بالعلم والعلماء، وعلى كثرة تكرار لفظة علم ومشتقاتها (البالغة حوالي 439 مرة) في القران الكريم – ليستنتج ان الإسلام (حث) على العلم، وان هذا الحث هو التغيير المنطقي للطفرة العلمية التي أنجزتها الحضارة الإسلامية …
للوهلة الأولى، تبدو مقدمات الاستشهاد ونتائجه صحيحة. لكن عندما يفكر المرء ان الوحي الإلهي بدء باقرأ، فانه يقر ان الأمر اكثر من مجرد حث، وان الطفرة العلمية الإسلامية اكثر من مجرد استجابة لهذا الحث …
عندما يبتدئ الوحي باقرا، فالأمر اكثر من الاستحباب واكثر حتى من الوجوب. انه يقع في منطقة خارج التقسيمات الاصطلاحية التقليدية – ويقع في منطقة عميقة جدا في البناء الإسلامي: في الأساس، في الأركان، في القاعدة.
وهذا ما كان واضحا، دونما تنظير فكري – بل كواقع يومي معاش لأفراد الجيل الأول، وهو الذي شكل الدفعة العلمية الكبيرة التي أنجزتها الحضارة الإسلامية ….
أما أن نتصور ان (الحث) والأوامر الإسلامية بطلب العلم قد حققت ذلك الوثوب وتلك الطفرة – فهو أمر اقرب الى السذاجة منه الى النظر والتحقيق العلمي …
لقد كان الإسلام لغة جديدة. روحاً جديدة. مضموناً جديداً بصياغة جديدة للعلاقات الإنسانية مع بعضها ومع الله ….
وكانت المفردة الاولى التي تكونت في هذه اللغه الجديدة – بالابجدية الجديدة – هي كلمة إقرأ.
* * *
لكن الرجل الذي أنزلت عليه إقرأ كان امياً.
وقد ظل علماؤنا لفترة طويلة يفسرون ذلك انه من ادلة النبوة واوجه الاعجاز – في مواجهة المشككين بصدق نبوة محمد (عليه الصلاة والسلام) …
لكن الانطلاق من أرضية التصديق بالنبوة يمنح ذلك التناقض الظاهري بين إقرأ وبين أمية النبي أفقا واسعا للتأمل وفضاءاً رحباً للتعليق …
¥