انه يحرر القراءة من أسوارها الأبجدية وحدودها اللغوية – على سعتها – ليطلقها في عالم المعاني شديدة الثراء والخصوبة …
انه يحرر القراءة من المفاهيم الجامدة للتلقين الغبي الى قراءة ما هو غير مكتوب في بطون الكتب …
انه دعوة لقراءة كتاب الكون المفتوح، المتمثل في كل ذرة من ذرات الخليقة …والمتجسد في كل حبة رمل ونسمة هواء وثمرة شجر …
انه دعوة للقراءة في كتاب النفس الإنسانية: في كل نزعة خير ونزوة شر، وعاطفة حب تهف بها النفس نحو الجمال والسمو او تسقط بها نحو الرذيلة او الانحدار …
والمتأمل في اللفظ المجرد (إقرأ) في اللغة العربية يجد في ثراء المعاني المرتبطة بها زوايا جديدة للنظر نحو الأمر الأول بل الفرض الأول الذي نزل في الغار …
فمشتقات قرأ ترد بمعاني: الحمل. الجمع، من المجموع. الفقه. المدة الزمنية. وكل واحدة من هذه المعاني تمنح (إقرأ) بعداً جديداً يوضح رؤيتنا لما حدث في الغار يومها …
فالقراءة – بمعنى " ما – هي حمل أيضاً "، وهو حمل ينتج من اللقاء الخصيب بين العقل الإنساني والواقع الإنساني، ذلك اللقاء الذي ينتج بذرة الوعي وجنين الأمل … في حمل قد يدوم عقوداً او قرون …او يجهض …
وهي ترتبط بالجمع – قراءة شمولية متوازنة تنظر الى العالم كله برؤية تكاملية غير تجزيئية …
وهي عين الفقه – الفهم – الذي يغوص عميقاً بحثاً عن الجذور، والذي يبحث عن الأسباب لا عن الظواهر، ويشخص الأمراض ولا يحدد الأعراض فقط …ومرتبطة بالفترة الزمنية – لأنها ليست مطلقة، خارج الزمان والمكان وذات صلاحية غير منتهية بل – وبسبب ارتباطها بالواقع ومتغيراته – تحتاج إلى عين بشرية جديدة وعقل بشري جديد باستمرار، ليقرأ من جديد …
وهكذا فإقراْ هي دعوة لقراءة الكون بأجمعه. الخليقة بأجمعها. والتاريخ. والنفس البشرية …
إنها دعوة استقراء واستنباط وتبحر عميق في العلاقة الحتمية بين الأسباب والمسببات وهي ذات الدعوة التي تمخضت فيما بعد بما يسمى اليوم بالمنهج التجريبي في العلوم – والتي كانت من أهم ركائز الانطلاقة الإسلامية في الحركة العلمية. والتي تعتمد على الملاحظة والاستنتاج لكنها بدأت حقا في الواقع اليومي المعاش، من (إقرأ) التي بدأت بملاحظة الظواهر البسيطة المحيطة بالفرد البسيط ولا تنتهي حتى بالكون العميق …
إنها فتح لأبواب العقل نحو الجهات الأربع: شمال وجنوب، شرق وغرب. تتخطى الأبعاد الثلاثة بل وحتى البعد الرابع: الزمن.
الكلمة الأولى: إقرأ. في العمق. في العمق جداً. مثل حقنة في العضلة للوعي الإنساني، للعقل الإنساني. بل للنوع الإنساني كله …
* * *
ولو تابعنا الحديث الذي روته السيدة عائشة والذي أورده البخاري في صحيحه لوجدنا نصا شديد الخصوبة يحدثنا فيه الرجل نفسه عن تجربته الهائلة الأولى مع الوحي …والذي يتضح من متابعة الحديث، ان النبي عليه افضل الصلاة والسلام كان يعي- وان كان بغموض- منذ اللحظة الأولى ضخامة الكلمة التي أنزلت عليه. كان يعلم إنها تتجاوز حدود القراءة الاعتيادية إلى أفق غير منظور، فهو ينكر الطلب "ما أنا بقارئ " –ثلاثا– وهو يرجع بها و يرجف بها فؤاده ويقول " لقد خشيت على نفسي " – وقبلها يطلب " زملوني زملوني " فزملوه حتى " ذهب عنه الروع ".
كل ذلك يؤكد بشكل قاطع انه عليه افضل الصلاة والسلام كان يدرك منذ اللحظات الأولى لرسالته أهمية ما جرى له وأهمية ما نزل به الوحي. ولم ينقل عنه أبداً انه استشكل أمر القراءة وهو الأمي – وهذا يعني انه كان يعي ان أمر القراءة يتجاوز الشكل الحرفي – الأبجدي – الى معنى الوعي والاستقراء كله ثم اكد له ورقة بن نوفل ما كان يدور في وعيه: " هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" ولم تكن سوى ثلاث آيات لكن ورقة وجد فيها الناموس، ووجدها سحيقة القدم عميقة الجذر تتصل بموسى – بعمق التاريخ. ثم قال منبهاً: " ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك " ولعل محمداً كان يعلم الجواب – او يخالجه – اذ سأل: او مخرجيَّ هم؟ لضخامة الكلمة – الناموس التي ألقيت عليه، فيجيبه ورقة ما يجيبه، وضمن الجواب ً نعم …ً.
* * *
وعندما نزل وحي السماء: إقرأ، بعد ذلك الصمت الطويل لم يحدث شيء.
¥