باستمرار، تستمر الفوائد في التصاعد، وجيوب الملأ العالمي في الانتفاخ .. وخلال ذلك، يصير الهامبرغر والبيبسى والجينز اكثر من مجرد حاجات استهلاكية، بل ان مظاهر نمط الحياة الأخرى، يحمل ولا بد، قيم تلك الحياة – وللأسف فان القيم التي تأتي دوماً تكون أسوء ما في الحياة الغربية: القيم الفردية والتحلل والإباحية والتفكك الأسرى والعنف والجريمة والمخدرات ..
ويحدث ذلك كله وسط (زفة) إعلامية هائلة تروج لما يدور كما لو كان منتهى الأمل والمنى، وهي (زفة) تتابع أحياناً بدقة حتى ابشع العمليات العسكرية التي تثبت فيها الحضارة الغربية (العبرة) و (الدرس) لكل من تسول له نفسه ان يقول لا لهيمنتها على شؤون العالم اجمع …
وسط ذلك كله. يسأل الفرد المسلم نفسه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟. وهو سؤال منطقي وبديهي. انه يجد نفسه محاصراً تماماً. قيمه وكتابه وبقايا هاجسه الديني يقول شيئاً، لكن حياته – كلها – تقول أشياء أخرى مضادة .. فماذا بوسعه حقاً ان يفعل؟.
بمواجهة هذا التنين هائل الحجم، متعدد الرؤوس، عابر القارات، ماذا بوسعه ان يفعل؟.
هذا التنين الذي احتل بيته واستغل ثرواته – بطريقة او بأخرى، ويكاد حتى ان يحتل رأسه او رؤوس باقي أفراد عائلته .. ماذا بوسعه ان يفعل في مواجهته.
انه اليأس. فقدان المناعة أمام كل شيء. اليأس القاتل- الانتحار، في هذه الحالة – ببساطة: لاشيء يفعله يمكن ان يغير شيئاً من نتيجة المواجهة.
انه اليأس.
الانخراط في الزفة والركض خلف سلع الاستهلاك ودورة الإنتاج وحضارة العولمة، يأس ورفض الانخراط عبر التقوقع على الذات والاقتصار على الشعائر والعبادات وبعض الأناشيد والتسابيح هنا وهناك، يأس أيضاً.
انه اليأس: مرض قاتل، بل وباء مستشري فتاك، ينتشر كما الإيدز، يسلب مناعة الأفراد كما المجتمعات – فيجعلها عرضة للموت والاندحار في اقل ضربة .. او هزة، انه اليأس. السلبية العميقة التي تصيب حتى أصحاب الشهادات والأفكار فيفرون بشهاداتهم إلى الخارج – او بأفكارهم الى الداخل -، تاركين في كل الأحوال مجتمعاً وواقعاً جديدين بالتغيير ..
انه اليأس. الذي يهاجر مجتمعه وقيمة إلى ارض الأحلام – (التي قد تتحول إلى كوابيس). والاوهام والفرص، يائس، يائس من قدرته على تحويل مجتمعه وارضه إلى مجتمع ملائم وارض احلام اخرى ..
والذي يبقى اما ان يتقوقع على ذاته وكتبه وشعاراته وعباداته وبقايا قيمه – ليكون وامثاله جالية منفصلة عن الواقع مغتربة عن المجتمع ركيزتها الاساسية ياسها المستفحل من القدرة على التغيير والاستسلام المهين لقدر النوم والتثاؤب .. او .. ان ينخرط الفرد مع بقية افراد المجتمع في درب التغريب – وبالذات في التطبع في اسؤ ما في الغرب من قيم – ولا يمنع ذلك من بعض الشعائر والطقوس – مفرغة تماما من القيم والوظائف الاجتماعية – ولا تفعل غير تلطيف الجو الاستهلاكي الذي يمجد السيارة الحديثة الفارهة ومقتنيات تكنلوجيا التسلية بكل انواعها – وتظل العين دوما هناك على تاشيرة الدخول الـ ( Visa) والبطاقة الخضراء الـ ( Green Card).. وماذا سوى الياس امام جداره القائم في النفوس والعقول والواقع المظلم وخندق السلبية والاستسلام المحفور بضراوة في دهاليز نفسيته.؟. ماذا بامكانه ان يفعل امام التنين الهائل الذي دخل بيته واحتل سريره وراسه وصار جزء منه.؟.
ماذا بامكانه ان يفعل وهو يائس حتى من امكانية المواجهة؟.
ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
* * *
هناك كتاب، في الكتاب آية، في الاية مثل، وامر، وحكاية.
ويمكن ان تظل الحكاية مجرد حكاية اخرى – مثل حكايا التوراة مسلية وتاريخية فقط – او تصير للحكاية بعدا اخر: ملحمة، رؤية، رؤيا.
وبين الحكاية المسلية – والملحمة الفاعلة فارق كبير لكنه يتعلق بنا – لا بالكتاب – يتعلق بفهمنا له، برؤيتنا لدوره، لكن لنعد للموضوع: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ ..
مرة اخرى هناك كتاب في الكتاب اية في الاية مثل وامر وحكاية.
وعندما سال محمد (صلى الله عليه وسلم) ذلك السؤال لنفسه: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ – نزلت تلك الاية بالذات (فأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت).
ولم تكن مجرد حكاية بل صارت ملحمة.
¥