تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من إعجاز القرآن وتفرّده الرائع في الدلالة، ارتباط الصوت بمعانيه ارتباطًا وثيقًا. وقد تبيّن لغير واحد من القدماء والمعاصرين، أنّ الجانب الصوتي ركن أساس في بناء التعبير القرآني، في مواضع عدة من التنزيل. ولابن جنّي (ت392هـ)، ملاحظ دقيقة في هذا المضمار، جعلته -مع ملاحظ أخرى- جديرًا بلقب (العبقري)، الذي وسمه به العلاّمة اللغوي الدكتور مصطفى جواد، رحمه الله.

وكان الفارابي (339هـ) قد التفت إلى ما سمّاه بعض المحدثين "الحاسة الموسيقية"، وسمّاه هو "الهيئة الشعرية" (10)، وكونها مركوزة في الإنسان منذ تكوينه، أو على حدّ قوله: "مركوزة فيه من أول كونه". وهي في اللغة العربية وفي إحساس العربي أكثر ظهورًا، حتى إنّ كثيرًا من الباحثين يصف لغتنا بأنها لغة موسيقية، وأنها انحدرت إلينا وقد اكتسبت هذه الصفة منذ أقدم نصوصها (11). وتلك الخصيصة أكسبت سمع العربي قدرة عالية في التمييز بين الفروق الصوتية الدقيقة، فكان مرهفًا يستريح الحاضر من الكلام لحسن وقعه، وينفر من آخر لنبوّ جرسه (12). ولقد بلغ القرآن الكريم الذروة في التأثير في سمع العربي ووجدانه، وذلك بعذوبة جرسه وجمال إيقاعه ونغمه، وما لذلك من صلة بدلالته. وكأنّ الوليد بن المغيرة المخزومي -في جملة ما أراد- هذه الخصيصة الصوتية، حين سمع رسول الله ? يتلو عليه سورة (حم السجدة) فإذا به يدهشه أمر القرآن، فيقول من غير تردّد ولا كتمان: "إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لَمُغْدِق، وإنّ أعلاه لَمُثْمِر، وما يقول هذا بشر" (13).

وحين حلّل المعاصرون النص القرآني، لفتهم علاقة الصوت اللغوي بالمعنى في تعبير القرآن، على نحو ما صرّح به الدكتور إبراهيم أنيس، وسيّد قطب، وعبد الصبور شاهين وغيرهم.

وتهمّنا في هذا البحث هذه الوشيجة الصوتية بالمعنى، تلك التي لفتت القدماء والمحدثين، والتي ما تزال -في رأينا- بحاجة إلى مزيد من الكشف والبيان. ذلك أنّ "الإيحاء الصوتي" في القرآن ينهض به الصوت اللغوي وحده، مفردًا كان أو مركّبًا، فيصوّر المعنى الذي في السياق بدقّة، بحيث لا يسدّ آخر مسدَّه، وهو إما أن ينهض به صوت مفرد مؤدٍّ للمعنى، وإما أن ينهض به صوت مركَّب، أو مجموعة أصوات في لفظ واحد أو أكثر، وذلك:

1 - فمن الأصوات المفردة غير المركَّبة (الصوائت) Vowels، كألف المدّ وياء المدّ؛ إذ لهما إيحاءان صوتيان متغايران يستشعرهما السامع النابه المتأمّل، أحدهما (صاعد) بألف المدّ، والآخر (هابط) بياء المدّ، وكلاهما وردا في سياق واحد، هو قوله ?: ?وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبادِ? (14). فعند الوقوف في التلاوة على لفظة (بَاسِقَاتٍ)، تمدّ الألف فيها ستّ حركات، وهو المدّ العارض للسكون (15)؛ لتصور هذا الامتداد إلى علوّ في بُسوق النخلة وارتفاعها إلى الجوّ بتلك الرشاقة الجميلة، التي تنتهي في أعلاها بذلك السعف الجميل المتهدّل على جوانب قمّتها من كل جهة، حتى أنها لتبدو كالفتاة الفرعاء (16). فإذا تلا القارئ بعد ذلك لفظة (نضيد)، ووقف على الدال، استشعر السامع بهذا المدّ الهابط: (الياء) خلاف ما استشعره بذلك المدّ الصاعد، الذي قبله في (بَاسِقَاتٍ)؛ إذ يستشعر بسمعه قبل بصره، هذا التنضيد الذي في الطلع، وقد غُطِّي بغطائه الربّاني الجميل، ذي الرائحة الذكية العبقة.

فهذا ما لفتنا إليه هذا التعبير المزدوج في لفظتيه: (باسقات) و (نضيد)، من الناحية الصوتية الدالة على العلوّ والصعود، والدالة بعده على التراكم والهبوط. ولم نجد من التفت إلى ذلك صوتيًّا، وإنما وجدنا المفكر الإسلامي الفذّ سيّد قطب -نضّر الله وجهه- قد التفت إلى ملحظ يتعلق بفلسفة الجمال في هذا التصوير القرآني البديع، وهو "إبراز جمال الطلع النضيد في النخل الباسق، تماشيًا مع الحق وظلاله، الحقّ السامق الجميل" (17). فربط -بخيال أدبي- بين الجمال الحسِّيّ المرئي للطلع الأبيض الجميل المنضّد، وبين الجمال الروحي المعنوي الذي ينطق به هذا التنضيد؛ للتدليل على الخالق العظيم في هذا الخلق المنسّق الجميل، إلاّ أنه لم يشر إلى الجانب الصوتي الذي يلحظ عند التأمّل الدقيق فيه، ولعله عرفه ولم ينبّه عليه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير