تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

2 - ومن إيحاء الأصوات المفردة (غير المركّبة) في تعبير القرآن، إيحاء (الهمزة)، وإيحاء (الهاء) في سياقيهما؛ إذ ورد كل منهما في سياق مغاير -دلاليًّا- لسياق الآخر. وهذا يعود إلى تغاير صفة كل منهما من الناحية الصوتية، وإن كانا من مخرج واحد هو (الحنجرة)؛ إذ الهزة صوت شديد، كما وصفه علماء الصوت العرب، بل هو أشدّ الأصوات اللغوية في العربية، ولهذا وصفه علماء الصوت الغربيون بأنه " Plosive"، أي (انفجاري) (18). على حين عُدّت الهاء من الأصوات (الرِّخوة) " Fricative"(19).

فإذا رجعنا إلى الكتاب المعجز المبين، القرآن الكريم، وجدنا الهمزة فيه قد وردت في سياق يوحي بالشدة، متمثّلاً بهذا التركيب الفعلي المؤكد بالمصدر: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)، في قوله ?: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا? (20). ووجدنا (الهاء) قد وردت في سياق مغاير له تمامًا، بل هو مضادّ له دلاليًّا من حيث الإيحاء؛ إذ وردت في تصوير ما أُمرت به مريم ابنة عمران عليها السلام، حين أتاها الطلق، فضاقت بذلك ذرعًا، إذ كيف يولد لها ولد وهي لم تتزوج بعدُ؟، فكان النداء الذي سمعته مُطَمئنًا لها من ناحية، وآمرًا إياها بهزّ جذع النخلة التي أوت إليها تستظل وتستتر بها. وذلك بقوله ?: ?أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا? (21).

فقال سبحانه (هُزِّي) هنا، ولم يقل: (أُزِّي)، كما قال في آية إرسال الشياطين على الكافرين (تؤزُّهم)، ولم يقل: (تهزُّهم)، وذلك للفارق الدلالي بين السياقين: سياق الشدة والعنف، وسياق اللين والحنان. وهذا من رائع بيان القرآن ودلائل إعجازه.

وإذا كان إيحاء (الألف) هنا جميلاً باعثًا على التأمّل في ما فيه ذلك اللفظ وهو (النخلَ باسقاتٍ)، الذي هو تأمّل في عنصر من عناصر الطبيعة النباتية، وهو (النخل)، والذي يكون باعثًا على شكر المنعم -سبحانه- به، فإنّ للألف في غير هذا السياق إيحاء آخر؛ إذ نجدها في موضع تشعر فيه بالكِبْر والاستعلاء، في تصوير مشية كافر من قريش، غرّته مظاهر الدنيا الفانية، من مال، وجاه، وولد -قيل إنه أبو جهل بن هشام-؛ إذ وصفه التنزيل بصفتي رفض من لدنه لِلحقّ والإيمان، وهما عدم التصديق بالرسالة المحمدية وهذه صفة فكرية، وبعدم أداء الصلاة، وهي صفة سلوكية، منبثقة عن الصفة الفكرية. وقد قابلها التعبير القرآني بصفتين أخريين، وهما: التكذيب بما هو حق وصدق، والقولي عن سبيل الإيمان والخير، فقال سبحانه: ?فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى? (22)، فنفى عنه التعبير الكريم ما هو خير، وأثبت له ما هو شر.

ثم ذكر التعبير بعدهما مباشرة وفي سياقهما، صورة لمشية هذا الكافر المتغطرس، تفصح عن كبريائه، وتتمّ رسم صورة جهله وإعراضه، فقال: ?ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى? (23). فإيقاع الآية مشعر بمشية الكِبْر لدى هذا المشرك المتعالي، ولكن يهمّنا كثيرًا هنا هذه اللفظة التي وقعت فاصلة، وهي: (يتمطّى)؛ إذ وردت لامها ألفًا، وهي الطاء الثانية في أصل الكلمة؛ إذ أصلها: (يتمطّط)، ولكنّ التعبير القرآني عدل عن الطاء التي في آخر اللفظة، إلى الألف بدلاً منها، لا لمجرّد اتساق حروف الرويّ فيها مع سائر الفواصل التي تلتها، مثل (أَوْلَى)، و (سُدى)، و (يُمْنى)، و (سَوَّى) (24)؛ إذ إنّ هذا ملحظ شكلي ليس هو المراد هنا، وإن كان له قيمته الصوتية الإيقاعية المؤثرة في نفس المتلقِّي، وإنما ورد (يتمطَّى) معدولاً عن أصله الطائي (يتمطّط)، إلى الألف الواقعة حرف رويّ للفاصلة؛ إيحاء بتبختر صاحب هذه المشية، وإشعارًا بما في نفسه من الزهو والخيلاء الفارغين من بواعث الحق والخير؛ إذ معنى (يتمطَّى) في اللغة: يتبختر، وأصله: يتمطَّطُ، أي يتمدّد؛ لأنّ المتبختر يمدّ خطاه. وقيل: هو من المطا، وهو الظهر؛ لأنه يلويه (25)، عند سيره.

وأيًّا كان الأصل، فإنّ هذا اللفظ (يتمطَّى) رسم صورة عملية مرئية لكِبْر ذلك الكافر وخيلائه الفارغة، ولذلك ورد في الحديث الشريف أنه ? "نهى عن مشية المطَيطاء، وذلك أن يلقي الرجل يديه، مع التكفّي في مشيته"، في ما ذكر الطبرسي (ت548هـ) في تفسيره (26).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير