تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومثلها التعبير عن النوم بالنعاس، وعن التنويم بغشية النعاس {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11]، تجد جوّ النعاس الرقيق اللطيف، وكأنه غشاء شفيف، يغشي الحواس في لطف ولين: أمنة منه، فالجو كله أمن ودعة وهدوء.

ونوع آخر من تصوير الألفاظ بجرسها يبدو في الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: 1 - 6]. اقرأها متوالية تجد صوتك يحدث (وسوسة) كاملة تناسب جوّ السورة. جوّ وسوسة (الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنّة والناس).

ونوع من هذا - ولكن فيه عنه اختلافاً - ذلك قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، فالمطلوب هنا هو تفظيع ما قالوا من أن الله سبحانه وتعالى اتّخذ ولداً، وتكبير هذه الفرية بكل طريقة. فقال (كبُرت) وأضمر الفاعل، ثم جعل هذه الكلمة تمييزاً منكراً، ليكون في الإضمار والتنكير معنى الاستنكار والتكبير (كبُرت كلمة). ثم جعلها تخرج من أفواههم خروجاً كأنها رمية من غير رام (تخرج من أفواههم)، وتنسيقاً لجوّ التكبير كله جاءت كلمة (أفواههم). وإنك لتحتاج في نطقها أن تفتح فاك بالواو الممدودة، وأن تخرج هاءين متواليين من الحلق في عُسر ومشقّة، قبل أن تطبق (فاهك) على الميم الأخيرة.

وهناك نوع من الألفاظ يرسم صورة الموضوع، ولكن لا بجرسه الذي يلقيه في الأذن، بل بظلّه الذي يلقيه في الخيال، وللألفاظ كما للعبارات ظلال خاصّة يلحظها الحسّ البصير، حينما يوجّه إليها انتباهه، وحينما يستدعي صورة مدلولها الحسيّة.

مثال ذلك: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]، فالظلّ الذي تلقيه كلمة (انسلخ) يرسم صورة عنيفة للتملّص من هذه الآيات، لأن الانسلاخ حركة حسيّة قويّة.

ومثله: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18]، فلفظة (يترقّب) ترسم هيئة الحذر المتلفّت. ولا نغفل هنا أنه خائف يترقّب في المدينة موضع الأمن والاطمئنان عادة، وإن كان هذا خاصّاً بالتعبير كله. ولكن العبارة هنا تبرز قيمة اللفظ المصوّر للفزع في موطن الأمان.

وهكذا .. يمضي الأستاذ نذير حمدان في بيانه لألوان الصور الجمالية العجيبة في المفردات القرآنية .. كتاب جدير بالقراءة.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير