ولقد استوقفني في البحث ذلكم الحديث عن الألفاظ الواقعة في فواصل سورة القيامة، وكيف أنها استقلّت برسم صورة شاخصة ومرئية - لا بمجرّد المساعدة على إكمال معالم صورها. وهذه - بلا ريب - خطوة أخرى في تناسق التصوير القرآني المعجز. ولقد بيّنت جزءاً من هذه الظاهرة العجيبة في أول مشاركة لي في هذا الملتقى المبارك - على هذا الرابط:
من إعجاز القرآن في فواصل سورة القيامة ( http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3127)
واسمحوا لي - حفظكم الله - أن أسوق شواهد أخرى لهذه الظاهرة الجمالية العجيبة من كتاب (الظاهرة الجمالية في القرآن الكريم) للأستاذ نذير حمدان - والذي أظنّ أن كثيراً من شواهده إنما هي مقتبسة من كتاب التصوير الفني لسيد قطب - رحمه الله.
يقول: تقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38]، فتسمع الأذن كلمة (اثّاقلتم)، فيتصوّر الخيال ذلك الجسم المثّاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثِقَل. إن في هذه الكلمة طنّاً على الأقلّ من الأثقال. ولو أنك قلت: تثاقلتم، لخفّ الجرس، ولضاع الأثر المنشود، ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ، واستقلّ برسمها ..
وتقرأ قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]، فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها، وفي جرس (ليبطئنّ) خاصّة. وإن اللسان ليكاد يتعثّر وهو يتخبّط فيها، حتى يصل ببطء إلى نهايتها ..
وتتلو حكاية قول هود: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، فتحسّ أن كلمة (أنلزمكموها) تصوّر جوّ الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق، وشدّ بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدّون إليه وهم منه نافرون ..
وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية، وأرفع من الفصاحة اللفظية، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن.
وتسمع كلمة (يصطرخون) في الآية: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ " (فاطر: 36 - 37)، فيخيِّل إليك جرسها الغليظ، غِلَظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان، المنبعث من حناجر مكتظّة بالأصوات الخشنة .. كما تلقي إليك ظلّ الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد من يهتمّ به أو يلبّيه .. وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون ..
وحين يستقلّ لفظ واحد بهذه الصورة كلها يكون ذلك فنّاً من التناسق الرفيع. ومثلها كلمة (عُتُلّ) في تمثيل الغليظ الجافي المتنطّع: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13].
فإذا سمعت: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] صورت لكل كلمة (بمزحزحه) - المقدمة في التعبير على الفاعل لإبرازها - صورة الزحزحة المعروفة كاملة متحرّكة، من وراء هذه اللفظة المفردة.
وكذلك قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94 - 95]، فكلمة (كبكبوا) يحدث جرسها صوت الحركة التي تتمّ بها.
ومن الأوصاف التي اشتقّها القرآن ليوم القيامة: (الصاخّة) و (الطامّة). والصاخّة لفظة تكاد تخرق صماخ الأذن في ثقلها وعنف جرسها، وشقّه للهواء شقّاً، حتى يصل إلى الأذن صاخّاً مُلِحّاً. والطامّة لفظة ذات دويّ وطنين، تخيّل إليك بجرسها المدوّي أنها تطمّ وتعمّ، كالطوفان يغمر كل شيء ويطويه.
ضع هذه الألفاظ بجوار ذلك اللفظ المشرق الرشيق (تنفّس) (والصبح إذا تنفّس) تجد الإعجاز في اختيار الألفاظ لمواضعها، ونهوض هذه الألفاظ برسم الصورة على اختلافها.
¥