تبتديء السورة بذلك الحلم الشفاف الطموح-وبذلك المشهد الحميم بين الاب وابنه .. ، ومع تتابع الايات نتابع يوسف وهو يكبر ويلاقي مصاعب-وكوارث، ولكن شيئاً لايفت من عضده، يستمر والحلم – الرؤيا في الاطار العام لافكاره وخططه: يستمر، وذلك الحلم الطموح - الايجابي يشكل التربة الخصبة لكافة ولتغلبه على المعوقات امامه.
… ونراه – اقرب الناس اليه يتأمرون عليه. وتراه وحيداً ملقى في البئر ثم وهو يباع رقيقاً رخيصاً بثمن بخس: دراهم معدودة. ثم وهو يعمل كخادم-ويكاد يتعرض للاغراء والغواية. ثم يدخل السجن مظلوماً بتهمة مزيفة،كل ذلك، ويوسف يكبر ولكن ذلك الحلم الطفولي البعيد- الذي يبدو تحقيقه مستحيلاً-يظل موجوداً في اعماقه.
لم يتمكن اليأس من قتل ايجابيته- وظل مع كل ذلك وحيداً: منذ القى في البئر، غريباً: من التقطه السيارة وباعوه في مصر. لكن شيئاً من ذلك لم يقتل روح الحلم في اعماقه. شيئاً من كل تلك المصاعب لم يستطع ان يقتل الاصرار والعمل والدأب في دواخله ..
.. وتنتهي السورة واذا بالحلم الذي إبتدء مع بدايتها يتحقق إذا بيوسف الذي رأيناه يباع كرقيق رخيص، وفي السجن- اذا به متقلداً اعلى المناصب في ارقى دول زمانه.
وقد ابتدء ذلك بحلم طفولي، رآه يوسف، واسر به والده ..
* * *
ان تفاعل الرسول (صلى الله عليه و سلم) مع الخطاب القرآني في هذه السورة بالذات، لابد وان كان مختلفاً ومميزاً – فنزولها بعد هود مباشرةً- وفي الظروف الصعبة التي كانت الدعوة تمربها، لابد وان جعلت من التفاعل معها يحمل مذاقاً خاصاً ومميزاً. عملياً كان الوعيد الالهي في هود شديد اللهجة.
وكان الامر بالانتظار (انتظروا انا منتظرون) محملاً بأيحاءات ودلالات تتجه في معظمها إلى حدث عظيم مفاجيء سيغير السكون الذي بدء يلف الاوضاع في مكة ..
وكان من المفروض ان يحدث شيء ما. أي شيء يغير رتابة الامر الواقع الذي بدء الملأ المكي يفرضه على الدعوة الجديدة. ففي كل الحسابات، لم يكن عدد اتباع محمد يتجاوزون المائة بعد عشر سنوات من الدعوة. هو رقم لانستطيع ان نقول انه مشجع جداً، خاصة في ظل ظروف الاضطهاد والاستكبار التي كانت تمارس ضد اتباع محمد- وفيهم مستضعفون وعبيد.
وعموماً لم يكن هناك حدث قوي يسند الدعوة الجديدة منذ اسلام عمر والحمزة، خاصة بعد وفاة ابي طالب وخديجة- ورغم إن حادثة الاسراء والمعراج اسهمت في تثبيت قلب محمد (صلى الله عليه و سلم) - الا ان الجبهة الداخلية لم تتحسن اوضاعها كثيراً: فالسخرية زادت، وبعض المؤمنيين افتتنوا.
بأختصار: كان لابد بشيء ان يحدث ليكسر جدار الامر الواقع.
وبعد عشر سنوات، كان المتوقع ان يحدث ماحدث لقرى سابقة – وامم سابقة: العقوبة الالهية التي تنهي القصة بأكملها، ومن جذورها.
وفي ظل الانتظار المتعب- المتحدي (انتظروا انا منتظرون) الذي اختمت به سورة هود التي شيبته عليه افضل الصلاة والسلام، تنزل على قلبه سورة بنسق مختلف وسياق متميز تبدء بحلم طفولي شفاف وطموح كأنما لتغير معطيات التفكير واولويات النظر، في تلك المرحلة الدقيقة التي كانت الدعوة تمر بها:، ولو استعرضنا نتائج التفاعل المحمدي مع الخطاب القرآني في سورة يوسف لوجدنا عدة نقاط مهمة:
اولاً- لقد غيرت السورة من معطيات تفكيره التي سيطرت عليها مشاهد العذاب المفجعة في سورة هود. فهنا صار النجاح ممكناً. ولم يعد العذاب الالهي هو الفعل النهائي في قصص الانبياء. بل صارت هناك امكانية النجاح والتمكين في الارض والسيطرة على خزائن الارض.
ثانياً – لقد كان يوسف، بعد كل شيء، وحده – الا من ايمانه وطموحه ودأبه على الكفاح، لقد كان وحيداً منذ القي في البئر: لا اخوه ولا عمومة ولا خؤولة – ولا سند عشائري من أي نوع، كما انه كان خالياً من أي مكانه اجتماعية مؤثرة منذ بيع كرقيق رخيص – بثمن بخس دراهم معدودة- ثم عمل كخادم، ثم صار نكرة منسية في السجن – لكن ذلك كله لم يعوق امكانية نجاحه ووصوله إلى هدفه ..
وكانت تلك النقطة مهمة في تفاعل محمد (صلى الله عليه و سلم) مع الخطاب القرآني: فوحدة يوسف صارت فجأة تعني مواساة له عن فقدانه لعمه (السند العشائري) وزوجته خديجة (السند المعنوي والمادي) – فيوسف اصلاً لم يمتلك هذين السندين في قصة كفاحه الطويلة ومع ذلك نجح.
¥