ولقد سمع كلام الاقوام من قبل. ما قاله قوم عاد وثمود واهل مدين وقوم لوط: سمعه على لسان الملأ المكي كما لو ان التاريخ يعيد نفسه. لعشر سنوات وهو يسمع نفس الصدود والسخرية والاستهزاء.
لقد كان في قلب التجربة النبوية. في قلب المشهد المتكرر. وكان المشهد المكي مشابه للمشاهد السابقة لدرجة المطابقة الا في تفصيل واحد ونهائي: الختام الذي ينتهي به القصة كلها. وكان ذلك المشهد لم يتوج الفصل المكي بعد، ولكن احتمالية ذلك كانت قائمة.
وكانت الايات اشواك يتقلب عليها محمد. جمرات محرقة شيبت رأسه. فالمقدمات المتشابهة في الايات ومكة – تحتم منطقياً ان تكون النتائج ايضاً متشابهة.
وكان يتسائل – بلوعة وحرقة وخوف: هل يحدث لمكة ماحدث لمدين؟ هل يحدث لقومه ماحدث لقوم عاد ولوط وصالح وشعيب؟ هل يأتيه الامر الالهي فجأة: ان اسر بأهلك .. ويكون موعدهم الصبح – أليس الصبح بقريب. ثم يأتي الامر الالهي متعدد الصيغ: يجعل عاليها سافلها. حجارة من سجيل. الصيحة – الصاعقة – الزلزال … إلى اخره.
ويصير: الا بعداً لمكة – كما بعدت غيرها من القرى ..
وكان ذلك يعذبه. لقد كان لايزال يحبهم. بعد عشر سنوات من الدعوة الصعبة والصدود المر كان لايزال يحبهم. ويتمنى لهم الايمان والتغيير والقيامة من نومه القبر التي يعيشونها وكان على خضوعه وانقياده للامر الالهي، يتمنى نهاية مغايرة لمكة وقومها .. وكان يشعر ايضاً، ان له دوراً سيكون مختلفاً عن بقية الانبياء، ربما اعتماداً على طبيعة معجزته ورسالته خصوصاً بعد الاسراء والمعراج- يعرف ان دوره مختلف …
ولكنها على أي حال، عشر سنوات صعبة وحتى الان لم يكن هناك سوى المقدمات المتشابهة مع بقية القصص – وكل الاسباب التي يمكن ان تؤدي إلى النتائج المتشابهة:
المشهد الختامي الذي انهى كل القصص بالعقوبة الالهية.
* * *
وكان تتابع الايات – الجمرات يكاد يؤكد له – تلميحاً – ذلك كله (ذلك من انباء القرى نقصه منها قائم وحصيد) 100 هود
(وما ظلمناهم ولكن ظلموا انفسهم …) 101 هود
(كذلك اخذ ربك اذ اخذ القرى وهي ظالمة ان اخذه اليم شديد) 103 هود
( .. وما نؤخره الا لأجل معدود) 104
(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون) 117 هود
(وكلا نقص عليك من انباء الرسل ما نثبت به فؤادك .. ) 120 هود
اذن هواجسه تكاد تتأكد. لقد اقترب المشهد الختامي حقاً. انه مؤخره لاجل معدود فقط. ومكة واهلها يكادون يستنفذون فرصتهم الاخيرة. وهو يتمنى لو كانت هناك فرصة أخرى، ويتمنى لو كان بأمكانه ان يفعل شيء من اجلهم … وكان ذلك يشيبه فعلاً ..
ثم تأتي الآيات الخاتمة للسورة المشيبة: (وقل للذين لايؤمنون اعملوا على مكانتكم انا عاملون. وانتظروا انا منتظرون) 122
انتظروا! انا منتظرون؟ ..
ينتظرون ماذا؟ تساءل الرسول. الصاعقة؟ الصيحة؟ الزلزال؟ حجارة السجيل؟ الامر الالهي بالخروج؟
ينتظرون ماذا؟ تساءل الرسول وقلبه معلق بعرش الرحمن، وعيناه معلقتان في السماء ومتخوفاً من أي سحابة قد تكون مقدمة للمشهد الختامي.
(انتظروا انا منتظرون)
وجلس محمد ينتظر في مكة بعد عشر سنوات من الدعوة والصدود. ينتظر امراً بالخروج لتواجه مكة مشهدها الخاص بها- نهايتها المشابهة لتلك النهايات في قصص القرى- وبينما هو ينتظر. ومعه المؤمنون، نزلت سورة بنسق مختلف وسياق متميز.
سورة لم يكن فيها وعيد ولا صيحة ولا حجارة من سجيل.
سورة ابتدءت برؤيا.
* * *
بعد كل ذلك التوتر والاستفزاز عبر مشاهد العذاب التي اصابت الاقوام السابقة، وبعد ان تهيأ محمد صلى الله عليه و سلم نفسياً – بأنتظار صعب وطويل ان يستقبل امر الخروج الذي سيسبق المشهد النهائي للفصل المكي الاخير: الصيحة أو العذاب أو الحجارة.
وبعد ان تيقن ان نهاية مكة ستكون كنهاية مدين أو ثمود … أو قرية لوط وصالح. نزلت عليه فجأة، سورة تبدء برؤيا .. طفل يخبر اباه عن حلم رآه: (ان قال يوسف لابيه ياأبت اني رأيت احدى عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) يوسف 4
بدلاً من الزلزال أو صيحة العذاب وامر الخروج، ينزل حلم طفولي شفاف على قلب الرسول • ..
¥