وتدخل في مثل هذه الاستعارة ما سبق الإشارة إليها من مقولة "الوليد بن يزيد": "فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيهما شئت"، فقد شبهت هيئة التردد في المبايعة بهيئة من قام ليذهب في أمر، فتارة يريد الذهاب، فيقدم رجلاً، وتارة لا يريد، فيؤخر أخرى، بجامع الحيرة في كل، ثم استعير باللفظ الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية.
ما تدخل في الاستعارة التمثيلية من الأمثال السائرة، ما شاع استعمالها وبقيت على هيئتها، نحو قولهم: "أحشفاً وسوء كيلة?????"، ويضرب هذا المثل لمن يظلم من وجهين، وأصله: أن رجلاً اشترى من آخر تمراً، فإذا هو رديء وناقص الكيل، فقال المشتري هذه العبارة، فقد شبهت هيئة من يظلم من وجهين، بهيئة رجل باع آخر تمراً رديئاً وناقص الكيل، بجامع الظلم من وجهين في كليهما، ثم استعير اللفظ المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، على سبيل الاستعارة التمثيلية.
ومن ذلك وجدنا أن الاستعارة سائدة في كلام العرب، أبرزها كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأعراب، لما تتميز بها من إيجاز في مفرداتها وسعة في معانيها، وهذه أهم ما تنشده العرب، أهل البلاغة والفصاحة.
وهكذا كانت وقفتنا مع الاستعارة على أوضح نقاطها وأوجزها، والتي وصلت بنا إلى الوقوف على أبرز معالمها البلاغية، من ذلك أن الاستعارة في أصل بنائها تشبيهاً مختصراً كما أسلفنا، إلا أنها تتناساه في عملها، وتتميز بالمبالغة في أدائها للمعنى، بادعائها أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، وهذا من شأنه أن يصور أهم خصائص الاستعارة البلاغية، في "أنها تعطينا الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج الصدفة الواحدة عدة من الدرر، ونجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر"، كما يصورها شيخ البلاغة "الإمام عبد القاهر"، فالإيجاز أهم ميزة لبلاغة الاستعارة في أغلب صورها.
ثانياً: المجاز العقلي:
وهو: إسناد الفعل أو ما في معناه، من اسم الفاعل أو اسم المفعول أو مصدر، إلى غير ما هو له في الظاهر أو في الحقيقة، لعلاقة مع قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له.
ومن أمثلة المجاز العقلي قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم (، فأسند الربح للتجارة، مع العلم أن التجارة لا تربح، وإنما الذي يربح هو التاجر، فإسناد الربح إلى التجارة من قبيل المجاز، ويسمى مجازاً عقلياً، لأن العقل هو الذي يتصرف في هذا الإسناد، فإذا تأملنا نجد أن المجاز لا يكون في الكلمة ذاتها كما في كلمة "ربح"، ولكن في الحكم الذي جرى منها، وإسنادها للتجارة.
ومثله قوله تعالى:) بل مكر الليل والنهار (، ولقد أسند المكر إلى الليل والنهار، وكلاهما لا يصح أن يقع منهما المكر، ولكن المراد هو المكر الذي يحدث من قبل بعض الناس في وقت الليل والنهار، من قبيل المجاز العقلي.
المبحث الثاني: التشبيه
من صور البيان وأساليب التعبير عن المعاني، أننا إذا أردنا إثبات صفة ما لموصوف معيّن، نأتي بأمر آخر تكون هذه الصفة واضحة فيه، ثم نعقد مماثلة بينهما تكون وسيلة لتوضيح الصفة والمبالغة في إثباتها، فكان هذا هو فن التشبيه.
والتشبيه في تعريفه اللغوي، هو: "التمثيل"، وفي الاصطلاح، هو: "عقد مماثلة بين أمرين أو أكثر، قصد اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه لفظاً أو تقديراً لغرض يقصده المتكلم".
والتشبيه فن رفيع في البلاغة، لما يضفيه على المعاني من حسن وبهاء، ويكسبها وضوحاً وتأكيداً، وإذا كان لنا حديث عن أساسيات التشبيه، فيجدر أن لا نغفل عن ذكر أركانه، التي هي بمثابة دعائم يقف عليها التشبيه، إذ لابد له منها في كل صوره اللغوية، حتى يطلق على الكلام تشبيه، وأركانه هي: المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والأداة.
والتشبيه في عموم صوره لا يمكنه الاستغناء عن هذه الأركان، سواء استحضرها جميعاً ظاهراً، نحو: "زيد كالأسد في الشجاعة"، أو اكتفى بإظهار بعضها وإضمار أخرى، فمن هذا المنطلق كان التشبيه فن واسع الخطوات و متشعب الأطراف، وهو إلى جانب ما يحمله من أوجه بلاغية رفيعة لا يسعنا المقام لحصرها، فإنه صورة من صور الإيجاز وبلاغته في اللغة أيضاً.
¥