وبعض أساليب التشبيه أقوى من بعضها الآخر في المبالغة ووضوح الدلالة، وعلى ذلك فإنه عند العلماء على مراتب، تتعاقب وتتفاوت بذكر أو حذف بعض أركانها، أدناها ما كان محرراً من القيود بتوافر كل أركان التشبيه، علماً بأن العلماء قد أقرّوا بقيمة هذه القيود فيه، والتشبيه يتشعب إلى أقسام، نفرد بذكر بعضها مما يتناسب والمقام حتى لا نتطرق إلى الإطالة.
وللتشبيه أدوات عديدة، منها ما كان من الحروف مثل "الكاف" و"كأن"، ومنها ما كان فعلاًً، نحو: ماثل وحاكى، أو اسماً، نحو: شبه ومثل ومحاك، وباعتبار ذكر هذه الأدوات وحذفها يتفرّع التشبيه إلى فرع من فروعه، فكان معنا التشبيه المؤكد.
أولاً: التشبيه المؤكد
وهو: التشبيه الذي تركت فيه الأداة لفظاً وتقديراً، بمعنى أنه ترك التصريح بالأداة وينوى تقديرها في نظم الكلام، على نحو: "محمد أسد في الشجاعة".ومن حذف الأداة في التشبيه المؤكد ما كانت مقدرة في نظم الكلام، نحو: قوله تعالى:) وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب (، وتقديرها: وهي تمر كمرّ السحاب. وعلى ذلك النحو قول الشاعر:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى
ذهب الأصيل غلى لجين الماء
وتقديره: أصيل كالذهب على ماء كاللجين.
ومن حذف الأداة ما لم تكن مقدرة في نظم الكلام، بل جعل المشبه به محمولاً على المشبه، مبالغة كما في التشبيه البليغ الذي سيأتي الكلام عنه، نحو: " زيد أسد"، على معنى: زيد كالأسد.
وهكذا نرى بلاغة التشبيه المؤكد في إيهامه أن المشبه عين المشبه به بحذفه للأداة، وفي هذا إيجاز.
ومن أركان التشبيه نجد وجه الشبه، وهو: الوصف الخاص الذي يقصد اشتراك الطرفين (المشبه والمشبه به) فيه، وباعتبار وجه الشبه الذي قد لا يظهر في صورة التشبيه كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الناس كأسنان المشط"، فوجه الشبه هو الاستواء ولكنه غير مصّرح به، ومع بعض أقسام التشبيه يكون لنا وقفات خاطفة.
ثانياً: التشبيه المجمل
وهو التشبيه الذي لم يذكر فيه وجه الشبه وهو: إما أن يكون ظاهر يفهمه كل أحد حتى العامة، نحو: "زيد كالأسد"، أي في الشجاعة، فهذا وجه شبه ظاهر ومعروف كما هو مفهوم عند العامة.
أو أن يكون خفي لا يدركه إلا الخواص أو من له ذهن يرفع به عن طبقة العامة، لأنه يحتاج إلى فكر وتأمل، وذلك كقول "فاطمة بنت خرشت الأنمارية" عندما سألها "أبو سفيان" حين قدمت عليه: أي بنيك أفضل؟ فقالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل أنس الفوارس، ثم قالت في حيرة: ثكلتهم إن علمت أيهم أفضل "هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها".
فوجه الشبه هو: التناسب الكلي الخالي من التفاوت، ومما دلّ على وجه الشبه ما ذكر بعد المشبه به من قولها: "لا يدرى أين طرفاها"،تريد أنهم متناسبون في الشرف كما أن الحلقة المفرغة متناسبة الأجزاء في الصورة.
ثالثاً: التشبيه البعيد الغريب
وهو التشبيه الذي لا ينتقل الذهن فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر وتأمل لخفاء وجه الشبه، كقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإن وجه الشبه في البيت هو: الهيئة الحاصلة من تساقط أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقادير متناثرة في جانب شيء مظلم، فالذي ينظر إلى هذا المثال يحتاج إلى تأمل وإمعان نظر، ليستنتج الصورة الخافية المختبئة في معاني كلمات البيت وهو وجه الشبه.
رابعاً: التشبيه التمثيلي
وحول هذا النوع من التشبيه تباينت أراء العلماء و جولاتهم فيه إلا أن ما ذهب إليه الجمهور هو الذي نسوقه في مقامنا هذا وهو: "ما كان وجه الشبه فيه وصفاً منتزعاً من متعدد أمرين أو أمور، بمعنى أن يكون وجه الشبه مركباً سواء أكان حسياً أو عقلياً".
وذلك مثل قوله تعالى:) مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً (، فوجه الشبه في هذه الآية هو: حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء بالانتفاع به، مع الكد والتعب والمعاناة في استصحابه.
ومثل قول الشاعر:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يوافي تمام الشهر ثم يغيب
فوجه الشبه في هذا البيت هو سرعة الفناء، انتزعه الشاعر من أحوال القمر المتعددة إذ يبدو هلالاً، فيصير بدراً، ثم ينقص، حتى يدركه المحاق.
¥