ثم إن أساس التمثيل هو التشبيه، ومن شأن التشبيه تحريك حسّ (النفرة) أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة .. فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو (التنفير) أو التشويه أو التزيين أو التلطيف ... فبصورة الأسلوب يوقظ (الوجدان) وينبّه الحسّ بميل أو (نفرة).
3. ما هو الضابط للرابطة الحقيقية بين المعاني في التمثيل؟
إن معاني التمثيل شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة. فكما أنك إذا أوردت عليك مسألة من المجهولات تأخذها، وتقلبها ظهراً لبطن، وتنظر إلى أوائلها وأواخرها، وتعتبر أطرافها وأوساطها، وعند ذلك تخرج بك الفكرة إلى معلوم، فكذلك إذا ورد عليك معنى من المعاني، ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية.
وإذن فالتشبيه معادلة جبرية تتكوّن من مجهول أو أكثر ومن معلوم أو أكثر من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة حسب تعقيد الصورة، وكثرة المتغيّرات.
والضابط بين المشبَّه والمشبَّه به هو علامة التساوي (=).
فالمشبَّه (س) = المشبَّه به (معلوم).
وكلما كانت الصورة أقرب إلى الواقع، فإن الضابط فيها يكون أوثق وأوكد.
ولا يخفى عليك - أخي الحبيب - أن كلاً من الأديب والشاعر والفنان والمخرج إنما يدّعون الحقيقة فيما أصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصدون التلطف والتأويل، ويذهبون بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض.
وبهذا يكون التمثيل معتمداً عندهم على الاتساع والتخييل. وكما يقول الإمام عبد القاهر: " وهل تشكّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئم والمُعرق وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهاً في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والدار مجتمعين؟ ".
ولذلك فإن الصورة هنا كلما كانت أقرب إلى الواقع، فإننا نمثّلها بالتعبير الرياضي (?) يساوي على وجه التقريب. ولنضرب مثلاً على ذلك من قول أبي تمام:
لا تنكري عَطَلَ الكريم من الغنى ***** فالسيل حربٌ للمكان العالي
ففي هذا البيت تنعقد مشابهة ضمنية بين عَطَل الكريم من الغنى وعَطَل المكان العالي من السيل. أما المشبَّه فهو دعوى غير قائمة في واقع العقل وإنما هي موقف. وأما المشبَّه به فهو قضيّة مسلّم بها، وهي أمر واقع يستطيع كل واحد في كل زمان ومكان أن يتأكّد منه.
وهنا يقيم الشاعر علاقات تخييلية بين الكريم والمكان العالي، وبين الغنى والسيل. وهذه العلاقات غير موجودة في واقع العقل، وإنما أقامها الشاعر من خلال رؤيته الكاشفة للعلاقات بين الأشياء، ومن خلال لمحه لأوجه شبه لا يراها العادي من الناس.
ولو سلّمنا جدلاً أن القضيّة الأولى كانت من حيث البرهان صفراً، وأن القضيّة الثانية كانت من حيث البرهان مئة بالمئة، فواضح أن حشر القضيتين على صعيد واحد سيتيح للقضيّة الأولى أن تكون خمسين بالمئة، وهو مكسب كبير على أي حال.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن قلائل من الناس مَن يدقّقون في هذه الأمور ويزنونها بميزان العقل، وأن الإنسان هو عقل ووجدان معاً، علمنا أن بعض إيحاءات هذه المعاني سيبقى لائطاً بالنفس. أضف إلى ذلك أن القضية الأولى لا تولي نفسها للتجربة والكشف لأنها حالة نفسية وموقف، فإذن تبقى هذه الروابط التخييلية تلحّ على القاريء أو السامع ما اتّصل بهذه المعاني أو وصل إليها.
وليس كذلك القرآن الكريم. إذ أن منهجه في التشبيه والتمثيل لهو كمعادلة الرياضيات سواء بسواء، وطرفي المماثلة لهما في التساوي الحقيقي. وهو ما لم تألفه أساليب العرب في القول التي كانت تنحو منحى المبالغة في الصفة أو اللون أو الحركة حتى لقد اشترط بعضهم أن تكون الصفة في المشبَّه به أقوى منها في المشبَّه.
¥