وهكذا نجد أن كل ملة اختبرت اختبارا يناسب موضوع رسالة الله إليهم. فاليهود بعدما أراهم الله البينات وأنجاهم من آل فرعون إذا بهم لم يقدروا الله حق قدره فاتخذوا العجل الذهبي إلها لحبهم للذهب. والنصارى اختبروا اختبارا يناسب الآيات التي جاء بها المسيح عليه السلام حيث وسوس لهم الشيطان أن عيسى ما فعل تلك الآيات العجيبة إلا لأنه هو الله تجسد في إنسان أو هو ابن الله، وهكذا سقطوا في الإختبار مع أن الله بين لهم ما يتقون به الرسوب في الامتحان إذ توفى الله المسيح أمام أعينهم، فكيف يكون إلها أو ابن إله ولا يملك حياته فيموت كما يموت المخلوق!!
أما رسالة الإسلام فهي رسالة عالمية للناس كافة، جاءت لتصحح الفتنة التي سقط فيها قوم عيسى عليه السلام ولتبين الدين الحق للعالم.
والفتنة تصحح بالبينة، فهل جاءت البينة واستيقنها الناس جميعا؟
كلا، لو أتتهم البينة لانفك النصارى عن تأليههم للمسيح، ولانفك المشركون عن شركهم والوثنيون عن وثنيتهم والضالون عن ضلالهم.
ولو أتت البينة واستيقنها الناس لجاء بعدها الاختبار العالمي ليعلم الله بالحجة الذين صدقوا في إيمانهم ويعلم الكاذبين.
حينما أتكلم عن مجيء البينة فإنما أتكلم عن إدراك الناس لها، أما البينة فقد جاءت قبل أكثر من 14 قرن، وأما لماذا لم تستيقنها أنفس الناس، فلأنها من جنس الحكمة، والحكمة تدرك بالعلم، والعلم يستغرق زمنا.
إذن فإن من الحكمة أن يؤتي الله الإنسان الوسيلة التي يدرك بها البينة، والوسيلة هي العلم، لذلك كان أول ما أنزل من قرآن هو (الوسيلة): اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.).
والغاية التي تتحقق بالوسيلة هي إدراك البينة التي يظهر بها الله دينه الحق على الدين كله، وذلك هو نصر الله للإسلام والفتح، وهكذا نفهم أن أول ما أنزل الله من قرآن هو الوسيلة، وآخر ما أنزل من قرآن هو الغاية: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).
إذن لا تقوم الساعة حتى يبين الله آياته للناس فيعرفونها ويستيقنون
أن الإسلام هو الدين الحق، وعندئذ ينقسم الناس إلى قسمين:
قسم استيقن الآيات فآمن.
وقسم استيقن الآيات فكفر.
ما الذي يجعل الإنسان يكفر وقد استيقنت نفسه الآيات؟
إنه الهوى، والهوى له سببان لا ثالث لهما، وهما: هوى النفوذ والسلطان، وهوى المال. فصاحب النفوذ يخشى أن يحد الدين من نفوذه وسلطانه، والمنتفع من الفساد الذي يدر عليه الأموال يخاف أن يسد عليه الدين منابع رزقه.
إذن فطبيعي أن ينقسم الناس إلى قسمين حين يريهم الله آياته ويعرفونها، ولذلك بعد أن ختم الله سورة النمل بقوله وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
تلاها بسورة تتكلم عن القسم الذي استيقن الحق فكفر، أولائك الذين استحبوا هوى النفوذ والسلطان وهوى المال، فأتى بفرعون كمثل للذين غرهم هوى النفوذ والسلطان، وأتى بقارون كمثل للذين غرهم هوى المال، وفي ذكر قصة هؤلاء عبرة للظالمين، وهكذا نعلم الحكمة من تسمية السورة بالقصص، فالقصص عبر للتذكير.
ثم تلت سورة القصص سورة العنكبوت وهي سورة تتكلم عن القسم الآخر من الناس الذين استيقنوا الآيات فآمنوا، فهل يكفي أن يقول الناس آمنا أم من الحكمة أن يمتحن الله هؤلاء ليعلم بالحجة الذين صدقوا ويعلم الكاذبين؟
هل يكفي أن يقول التلاميذ لمعلمهم فهمنا الدرس ياأستاذ أم من الحكمة أن يمتحنهم ليعطي كل واحد الدرجة التي يستحقها؟
¥